“بوهيميا” النقد والبحث عن الله

23 مايو 2022
“بوهيميا” النقد والبحث عن الله

 

د. ليث الرواجفة

عند معاينة خطابات الثقافة العربية المعاصرة ثمة ما ينبئ بتفشي إشكالية خطيرة وهي إطلاق الأحكام النقدية جزافًا من باحثين غير مختصين أكاديميًا دون أن يعنوا أنفسهم جهد قراءة العمل الأدبي المنقود؛ فيُحاسَب المبدع على نصه غير المقروء، ويُحاكَم النص لتطلق عليه الأحكام غيابيًا دون حضوره وقراءته. وكأن النقد أضحى عملية بحث مؤدلجة تقوم على مبدأ لي عنق العملية الإبداعية بهدف الكشف عن شيء أصله غير موجود! وهو ما اصطلحتُ عليه (بوهيميا) النقد الذي يعبّر ضمنيًا عن تيه وضياع الناقد الذي لا يمتلك أبسط الأدوات النقدية والمعرفية. 

مثلما للنقد ثمرات له لعنات، ولعناته أشد وطأة من ثمراته؛ فالناقد حين يشهر سيف كلماته تجاه العمل الأدبي يغيب عن وعيه أن سيفه ذو حديّن، وأنه قد يقع في (عمى) يغيّب النص من أمامه وتحضر في كلماته كل ما يكتنز في داخله من أيدولوجيات سياسية أو دينية أو فكرية، مما يفقده السلطة على قلمه وكلماته، وهي فقدان لحرية السيطرة والتوجيه الموضوعي له. وهذا ما حدث في مقالة الدكتور (مصطفى التل) الموسومة بــ(لم أجد الله في رواية “بوهيميا”). طبعًا الدكتور لا أعرفه ولكن أكن لشخصه الكريم كل الاحترام والتقدير، وإنما تعقيبي هذا يندرج في باب (نقد النقد) من وجهة نظر اختصاصية وأكاديمية تطمح إلى تبيان مواضع (العمى) التي وقعت فيها كلمات الدكتور، وهي استراتيجية قرائية تفكيكية.    

 أولاً: عمى الخلط بين النص الموازي والنص الروائي 

سعدتُ جدًا حين وجدتُ مقالاً يعاين رواية (بوهيميا) الصادرة مؤخرًا للدكتورة خالدة مصاروة، وحزنتُ جدًا حين قرأتُ أول كلمات منها، وتحديدًا: (ما قدمته مؤلفة الكتاب بقولها: انطلقت بنية الرواية الموضوعاتية..)؛ فهذا النص ليس لمؤلفة الكتاب (أظنه يقصد الرواية) وإنما هو نص موازي كتبته أنا على غلاف الرواية مذيّل باسمي، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على أن الدكتور لم يحصل على الرواية ورقيًا، وهو حكم سابق لحكم لاحق بأنه لم يقرأ الرواية أصلاً. وعليه فإن جميع مناقشاته المطوَّلة التي بناها على أساس كلمة الغلاف قد فقدت قيمها النقدية والمعرفية، وانهارت أمام هذا المنزلق الذي لا يقع فيه إلا مَن أعماه وهج المضمون للنص الموازي، فأخذ يبني بعجالة مواقفًا أيدولوجية على أسس غير ثابتة القواعد، وفاقدة لمصداقيتها الموضوعاتية والمنطقية في آن، وهو ما سيتم تبيانه في حديثه عن مصطلحات النص الموازي (كلمة الغلاف).  

ثانيًا: عمى المصطلحات الفلسفية والنقدية 

بعد نقض وتقويض الأساس الذي قامت عليه قراءة التل، واستبداله بأساس جديد حقيقي يقضي بهدم كل المقولات التي نسبها للدكتورة خالدة مصاروة وأن كلمة الغلاف ليست لها، مما يعني بطلان جميع المناقشات المصاحبة لها من طرف الباحث الناقد الدكتور التل؛ فأصلها يعود إلى صاحب المقولات (ليث الرواجفة) وهو (مسلم) الديانة والهوية والقلب، ولا يعرف إلا القليل عن الدين المسيحي، ومع ذلك سيتم الرد علميًا على التحديد الاصطلاحي لما ورد في كلمة الغلاف. تقول قراءة التل: (الميتوس فلسفة هي مجموعة من القصص الخيالية المرعبة انتشرت في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم على يد أدباء من أمثال روبرت هوارد وتعني باختصار شديد أنها مجرد أسطورة). لا أعلم ما هو المصدر الذي يحدد هكذا تعريف لمفهوم (الميتوس) سوى الشبكة العنكبوتية وتحديدًا موقع (إسألنا) المنقول منه حرفيًا. هل من المعقول أن نبني فهمنا لمصطلح فلسفي على ما جاء في محرك البحث (Google) ونتجاهل الكم الهائل من الكتب الفكرية والفلسفية التي حددت هذا المصطلح من أرسطو وأفلاطون –إلى يومنا هذا- بأنه يحيل إلى الغيبيات الماورائية سواء أكانت أساطير أم مقولات دينية (صوت الوحي) في الأعمال الأدبية والفلسفية وغيرها وليس حصرًا ببعض أجناس الكتابة أو بعض الأدباء. وهو ما ينطبق على مصطلح (اللوغوس) الذي يحيل مفهومه إلى كل أشكال هيمنة العقل ومركزيته بعيدًا عن أي مبدأ نفسي كما جاء تعريفه في قراءة التل، ما يعني أنه حاول –جاهدًا- البحث عن علاقات ومرجعيات بين المصطلحات وصاحبة النص الروائي ليبني عليها تصوره النقدي. وجاء أيضًا في قراءته: (والثاوية مصطلح فلسفي يستخدم في علم النفس التربوي وعلم النفس الطبي وملخصه أن الإنسان يهذي وأنه يريد شرح تجربة غير طبيعية) بصراحة أنا الذي استخدمت هذا المصطلح ولا يوجد لدي أي مرجعيات في علم النفس الطبي أو التربوي، وإنما يقصد الباحث الناقد مرجعيات الدكتورة خالدة بحكم اختصاصها الأكاديمي، وهو دليل يمكن أن يضاف إلى (أيديولوجية) قراءة التل وعدم موضوعيتها النقدية. فحين وظفتُ مصطلح (الثاوية) قصدتُ (الكامنة) بطرق مخاتلة ومخادعة. وما سبق ذكره ينطبق على كم كبير من المصطلحات الفلسفية التي تمّ معالجتها بطريقة بعيدة عن العلمية والموضوعية والبحث الاستقصائي والاستقرائي مثل: (ميثولوجيا الفحولة/ النزعة اليسارية/ النزعة الوجودانية/ بوهيميا/ التجريب الروائي..)، فالأساس الذي انطلق منه الباحث في توظيف هذه المصطلحات الفلسفية والنقدية بعيد كل البعد عن دقتها وصحتها. ودليل ذلك ما جاء في قراءة التل: (المدرسة الغربية في النقد هي مدرسة تركز على الشكل العام للنص الأدبي دون مضمونه). إن هذا الحكم الواسع يدّل على المنهجية البحثية التي ارتكن إليها الباحث الناقد؛ فهو يعتمد المقولات الجاهزة المليئة بالتعميم المغلوط، فإن كانت المدرسة الغربية في النقد تتجاهل المعنى فأين نضع (السيميائية، نظرية التلقي والتأويل، التفكيكية، الدراسات الثقافية، دراسات ما بعد الحداثة…) وغيرها الكثير.           

ثالثًا: عمى القراءة الإبداعية والارتكان الكلي على الأيديولوجية 

خلال استخدام الاستراتيجية التفكيكية في المحاور السابقة لقراءة الدكتور التل تم الإشارة بشكل غير مباشر إلى أكثر من علامة بأن نقده لا يقوم على أسس أدبية وإبداعية وعلمية وإنما على أسس (أيديولوجية) افترض مسبقًا أنها موجودة عند صاحبة الرواية الدكتورة خالدة مصاروة، وتحديدًا الفكر اليساري الذي لا أعلم من أين جاء به، فغلاف الرواية لا يتضمن أي إشارة يسارية –على افتراض أن غلاف الرواية منسوب للمؤلفة وهو غير صحيح- كما أن بنيتها الداخلية لا تحيل بأي شكل كان إلى هذا التوجه مما يعني صراحة أن الباحث لم يقرأ حرفًا واحدًا من الرواية، وإنما بنى تصوره على ما قرأ من نصوص موازية مكتوبة حول الرواية؛ ومن وجهة نظر نقدية لا يوجد أي إشكالية في حضور الأيدولوجيات المختلفة في الأعمال الإبداعية وتحديدًا الروائية التي أخذت على عاتقها إماطة اللثام عن الأيديولوجيا شكلاً وبنية. وما الأعمال الأدبية العظيمة إلا انعكاسات عن الأيديولوجيا مثل الصراعات التي دارت بين الماركسية والرأسمالية في الأدب الروسي والصراع بين النازية وغيرها في الأدب الألماني وبين الحداثة والأصولية في الأدب العربي الحديث. إن حضور هذه الأيديولوجيات في الأعمال الروائية لا يعني انتماء الروائي إلى أحدها (وهو ليس عيبًا إن كان يعبّر عن موقفه)؛ فقد يأتي روائي مسلم يعالج أيديولوجيا العلمانية والشيوعية والإلحادية، فهل هو علماني أو شيوعي أو ملحد؟ إن مثل هذه الاسقاطات على الأعمال الأدبية ما هو إلا (نقدًا مبتذلاً) لا قيمة له ويسعى إلى الحدّ من قوة الإبداع، ومحاولة إيقاف حركيته وتطوره. هذه الحركية التي وصفتها قراءة التل بأنها: (اتجاه ثقافي تمرد على جميع الثوابت التنظيمية الفكرية) نعم هو اتجاه تمرّد على أيديولوجيا الدكتور التل الذي لا أعرف شخصه الكريم ولكن من خلال كلماته عرفت الأيديولوجيا الحاضرة في عمى كلمات قراءته، كأنه يهاجم رواية (بوهيميا) من أجل الدفاع عن مكنونات موجودة لديه، وهي أيديولوجيات تنقسم إلى قسمين: أيديولوجيا الأصولية التراثية، وأيديولوجيا السلفية الدينية. فهو استغرق مطولاً في الدفاع عن هاتين الأيدولوجيتين بشكل غير مباشر عبر هجومه على الرواية التي لم يقرأ، ودليل ذلك عدم وجود لو اقتباس واحد من الرواية في نصه النقدي. 

رابعًا: عمى الخلط بين الواقع والمتخيل 

لقد بنى الباحث التل فرضية خاطئة تم تقويضها وتفكيكيها بسهولة لأنه لم يقرأ الرواية، وأظن أن من حقنا أن نبني فرضية قد تكون خاطئة –وهي كذلك- بأن التل قرأ الرواية، وقد ناقش الرواية في قراءته النقدية من منظور تلقيه وتذوقه الذاتي والنقدي للنص الإبداعي؛ فنجد أنه قد خلط بين الواقع والمتخيل وتحديدًا بين شخصية (وفاء) -التي اعتمد على نقل مقولاتها من الدراسات السابقة- وبين الدكتورة خالدة، فحاسب المؤلفة على أنها هي شخصية الرواية، وكل ما في الرواية يمثلها بهدف وهم (رصد لاتجاه الكاتبة اليساري). فبدأ الخلط من عنوان الرواية (العنوان (بوهيميا) مؤدلج بمذهب أوربي ساد في القرن التاسع عشر على يد الغجر في فرنسا). وهذا غير صحيح شكلاً ومضمونًا؛ فالمذهب الأدبي الذي يتحدث عنه لا علاقة له ببنية الرواية الفنية والموضوعاتية لا من قريب ولا بعيد، وإنما جاء العنوان للدلالة على حالات عاشتها وعالجتها الشخصية المحورية ومنها: (التيه، الضياع، التشتت، عدم الاحترام، عدم الاعتراف، النبذ، الغياب رغم الحضور، فقدان الهوية، كثرة الترحال، التنقل، التحليق، الإثنية العرقية، العنصرية، البحث، التفكّر، التدبّر، التأمل، الصوت والصدى…). لو تم قراءة الرواية لما أُطلقت الأحكام النقدية على عواهنها.

هنا يتبادر إلى ذهني بوصفي باحث متخصص: هل من العيب أو الخطأ أن يكتب المبدع وفق مرجعياته الدينية أو التراثية أو الفكرية؟ تقول قراءة التل: (حقيقة استخدمت الدكتورة كم من المصطلحات الفلسفية التي تضع الدين المسيحي في منطلقات كتابها) -يقصد روايتها- شعرت بأن البنية السطحية للغة النقدية تحمل في ثناياها بنى عميقة سلبية توجه تهمة خطيرة بعد الكشف المبين بأن الكاتبة وظفت ثقافتها الدينية المسيحية في روايتها التي لم يتم قراءتها. لتأتي اللغة النقدية بعد ذلك مباشرة في توجيه تهمة جديدة (تتمرد الكاتبة على الانجيل وتصفه بأنه ميثولوجيا فحولية) (فحولة الإنجيل التي تدعيها المؤلفة). فهل الموقع الذي يتبوأه صاحب النص النقدي يخوّل له الدفاع عن الإنجيل؟ كما أن هذا غير صحيح أبدًا لأن الذي استخدم ووظف مصطلح (ميثولوجيا فحولية) على غلاف الرواية هو أنا العبد لله، وهو مصطلح أظن أنه خاص بي. وهو ما ينطبق على ما جاء في القراءة: (حكمت المؤلفة أن الإنسان هنا فقد أي قناة تواصل مع الذات الإلهية بالمفهوم المسيحي!!). طبعًا القراءة تعلّق على كلامي المكتوب على غلاف الرواية، وبما أنه نص موازي مذيّل باسمي أظن أنه منسوب إلي بكل ما فيه ولم أكن أعلم أن قراءتي لها مفاهيم وتأويلات مسيحية إلا الآن، وقبول الدكتورة بوجود القراءة النقدية على غلاف الرواية كان علامة ذكاء منها لأنها تمتلك وعيًا بأن هناك مَن سينطلق من الغلاف إلى المتن وليس العكس.   

لقد خلطت قراءة التل لرواية (بوهيميا) بين الواقع والمتخيل ووجهت تهمًا كثيرة؛ ومنها تهمة (محاولة المزاوجة بين الرواية ببعدها الأيديولوجي المسيحي مع البعد الإسلامي الديني العقدي)، وهنا نكرر ما تم ذكره سابقًا، هل من العيب أو هل ممنوع أن يكتب المبدع عمله الإبداعي وفق مرجعياته الثقافية؟ نحن في الأردن نعيش حالة من المحبة بين المسلمين والمسيحيين –الحمد لله- والمسيحيين يشكلون بنية أساسية في ركيزة ونسيج المجتمع الأردني، كما أن الأردنيين لا فرق بينهم وفق عرقهم أو دينهم (كلهم أردنيون)، وحضور هذه الثنائية في بنية الرواية الفنية والموضوعاتية من وجهة نظر نقدية ما هي إلا انعكاس لصورة الواقع المعاش في ثقافة النص الخارجية (بيئة النص)، فعلى العكس هي جمالية في الرواية لم يتم التنبه إليها من قبل، وهو ما يمكن أن نعدّه من جماليات (عمى) القراءة التي قدمها التل. 

وعلى سبيل الختام يمكن القول بأنه من المؤسف أن يتحول النقد الأدبي إلى ساحة لبث أيديولوجيات واتهامات، وتصفية حسابات؛ فواضح من عنوان هذه القراءة أنها جاءت للرد على الدكتور ذوقان عبيدات الذي كتب مقالاً بعنوان: (الله في رواية بوهيميا). وهنا أوجه رسالة للتل إن كان يبحث عن الله في رواية (بوهيميا) لن يجده؛ لأن الله أمامه في كل شيء، في القرآن المنظور (الكون) والقرآن المكتوب معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وإن كان الدكتور يبحث عن الله في رواية (بوهيميا) كحضور مباشر لن يجده أيضًا لأنه لم يقرأ الرواية، فلو قرأها لما عنون مقالته بهذا العنوان الإشكالي الذي ارتد عليه، وقام بمحو ما تمّ كتابته شكلاً ومضمونًا بعد تفكيكيه وتقويضه.