رواية (بوهيميا) لخالدة مصاروة وتأملاتها في الميكرو

20 مايو 2022
رواية (بوهيميا) لخالدة مصاروة وتأملاتها في الميكرو

 

محمد عبدالله فولا- روائي ومعجمي مغربي

بوح، انكشاف، رجوع إلى الذات المنتصرة… كل هذا وأكثر، فلا تذهبوا بعيدًا، يوجد الكثير مما يقال عن رواية (بوهيميا) للأردنية خالدة مصاروة.

يحاصرك متن المحكي من كل جانب، يضعك تحت تأثير الاعترافات المتتالية، يخرجك من قميص المتلصص على ما انكشف من الذات الراوية إلى الواقف على الاعترافات، لقد جعلك النص ككاهن يتلقى اعترافات، هذا بكل بساطة ما يمكن قوله عن رواية (بوهيميا). لكن الفرق الوحيد بين الاعترافين (الحقيقي والمجازي) أننا نجد في رواية (بوهيميا) اعترافات ذات تستعصي عن الانهزام، ذات واقفة بصمود وشموخ أمام الزوابع التي تريد اقتلاعها من جذور أرض الانتصارات، ليشكل البوح نصًا منسجمًا متسقًا متناسقًا، نصًا يسترسل حتى لتخالك بين الحين والآخر أنك ترافق طبيبة نفسية أو بالأحرى مريضة نفسية، لنعيد طرح السؤال النقدي القديم: هل المبدع مريض نفسيا؟

وتحت تأثير الحكي المسترسل قد لا يبدو للقارئ أن الرواية تتخذ طابعًا استبداديًا في الحكي؛ فلا صوت يعلو فوق صوت الذات الساردة، فلا شخصيات تأخذ حقها في الحديث، ولا بوليفونية، بل لا نجد أحدًا يستطيع الحديث إلا بما تتخيله الكاتبة، فكثير من الكلام الذي جاء على لسان الشخصيات التي ظهرت في الرواية هو مجرد تذكر، وكأن الكاتبة تعيش على الذكرى، على الحنين إلى الماضي، إنها رواية الموتى، حقيقة ومجازًا، فلا أحد حي إلا الكاتبة، وغيرها ميت لا يستطيع الحديث، مجرد ذكريات في أرض يباب، والكاتبة تؤكد ذلك في غير مكان في المتن السردي، تقول في الصفحة 212: “روايتي نحن فقط أبطالها”، هي والشخص الآخر الذي تختزل العالم فيه. 

تحمل الرواية أسئلة وجودية ضاربة في العمق الفلسفي: من نحن، من أين أتينا، إلى أين نمضي؟ وهل تستحق الحياة كل هذا العذاب والألم؟ إن الرواية تعيد تشكيل الفضاء السردي ليصبح حضنا للأسئلة الأنطولوجية الكبرى، تلك التي عجزت الفلسفة عن إيجاد أجوبة تشفي غليل الجميع، ومن يدري؟ فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، ولعل مياه الرواية التي يستحم فيها كثير من القراء تلد أجوبة تشفي صدورهم، وذلك فيما يشبه البوح الجماعي، بوح على لسان الراوية، وهذا ما لا نجده في الكتابة الفلسفية، فهذه الأخيرة جافة منفرة، لكن السرد والأدب ممتعان، فلا شك أن المزج بين الأدب والفلسفة سينتج أجوبة عميقة.

ومع ذلك فالرواية تجعلني أتذكر فكرة التوليد، فالمتن الروائي مليء بالأسئلة التي يمكن وصفها بالتوليدية، أسئلة لا تخرج من نطاق الشخصيتين المهيمنتين في الرواية: (وفاء) و(الرجل). ولعمري، هي طريقة جيدة لاسترسال المتن الحكائي، خصوصًا مع ديكتاتورية السارد وعدم رغبته في مشاركة الآخر لعبة الحكي، وكذلك مع قلة الأحداث التي فرضها الاختيار السردي؛ لذلك شكل السؤال طريقة لتوليد المعنى واسترسال المنجز السردي.

المتن الروائي حافل بالمعجم الديني الذي يمتح من العقيدة المسيحية والإسلامية، ألفاظ من قبيل: الله، محبة، الروح القدس، الروحانية، الشوق، يبارك، ملكوت الله، الصلب، القيامة، رمضان، الكنائس، المساجد، التراويح… إن المجتمع الأردني القائم على ثنائية الحضور الديني يفرض إيقاعه في النص الروائي، تختلط المعجمات مشكلة لغة يستعصي بعدها معرفة خلفية الكاتب الدينية، خصوصًا أن الموضوع الرئيس هو الحب، والحب سيان في الديانتين، لذلك لن يجد القارئ الذي يطرح السؤال الأبدي غير الأدبي: ما ديانة الكاتب؟ لن يجد جوابًا، فالمعجمان متلاحمان لدرجة أنك لا تقبض على شيء يمكنه أن يشفي غليلك حتى يتفلت منك، تتعاقب الكلمات وتتبادل المواقع لتشكل نصًا خاصًا، نصًا لا يمنح المتطفلين على غير الأدب قطمير جواب.

وأخرى في الماكرو 

هل يمكن الحديث عن الحكمة في الرواية؟ طبعًا، النص مليء بها، لدرجة أنك تقف عند جمل تخالها قيلت واستُنتجت في خضم معارك الحياة المتتالية، هذه الحياة التي تنتهي عند كل الأقوام، عند كل الديانات، بالموت، لكن: “الموت يا أبي لا يوجع الموتى، إنما يوجع الأحياء”، ص 134، حكمة ما بعدها حكمة.

هل الرواية تشخص الوضع العربي المهزوم؟ هو كذلك، فالشخصية العربية تعيش انهزامات متتالية منذ بداية القرن العشرين وإلى الآن، لا أفق في الأفق، ولا ضوء في نهاية السرداب، لذلك تجد الكاتبة تصف الشخصية العربية، كيف نعيش حياتها؟ تقول: “لا توجد أزمنة ثلاثة، لأننا لا نعرف سوى الحاضر”، ص135

وفيما يشبه عدم الرغبة في تحميل الإنسان العربي المسؤولية على ما آلت إليه الأوضاع، تنبعث جمل كثيرة من اللاوعي، تلك التي تخدر القارئ والكاتب معًا ليعيشا نيرفانا من نوع خاص، نيرفانا تمنحهم ما يشبه التطهير من خطيئة ما، تقول: “الأقدار عشناها ولم نخترها، إننا لا نختار شيئا”، ص 150

فما البديل عن عيش هذه الأزمة، هذا الواقع المتردي البئيس؟ هل نستمر في عيشه بكل ما يتسم به من ضعف للشخصية العربية، إلى أين الملتجأ؟ أجوبة كثيرة يمكنها أن تقدم، منها ما يقترحه المتن الروائي: “في عالم يائس عن تحصيل السعادة لا يمكن التغيير الخارجي”، ص162 فما البديل؟ ليس البديل إلا أن يعيش الإنسان بثه الذاتي عن السعادة، أين؟ قرب خالقه، فـ: “الإنسان مخلوق ليسعد بالقرب من خالقه”، ص 162

وتبزغ بين الحين والآخر إرهاصات النهوض، بوادر القيام نحو القيامة، هكذا، ولأن النص يكرر كثيرًا القيامة والصلب وأعياد الميلاد، فإننا نرى في ذلك بشارات يمهد بها المتن السردي للقادم العربي الجديد، فـ:”المستحيل مستحيل”، ص191

ويستمر السرد ليعيدنا مرة أخرى إلى أصل الإشكالات التي نعيشها، هل هي الأوهام؟ هل هي الحقائق غير المكتملة؟ نحن نعيش على أنصاف أو أرباع الحقائق، نكررها ونعيشها مجترين ما وجدنا عليه آباءنا، فلا الحقيقة ندركها ولا الخلَف يتعلم منا ما توارثناه عن الأجيال السابقة، الصورة تصبح باهتة كلما انتقلت من جيل إلى آخر، لكن الكوارث التي يبتلينا بها الله لها وجه مضيء آخر، إنها لتعيدنا إلى الوعي الحقيقي، حتى في علاقتنا مع الله، ولننظر إلى كورونا، فـ:”الوباء أجبر الناس على الصلاة في البيوت، وأقنعهم أن الله موجود في كل مكان، وليس في الكنيسة أو المسجد فقط”، ص195

وأخيرًا

قال همنجواي ذات يوم: “الكتابة ثاني أصعب شيء بعد مصارعة التماسيح”، وهو الذي تؤكده الكاتبة على لسان شخصية الرجل، حين يقول: “فعل الكتابة متعب جدا”، ص 262. وإذا كانت الصعوبة تعم الكتابة بأنواعها، فإن المتن الذي بين أيدينا أكثر صعوبة، وأقول هذا من منطلق أنني كاتب رواية، ولأنني أيضًا: “كنت أصاب بالتعب أحيانًا من الكتابة”، ص 263.