الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعيات شح الأسمدة البوتاسية

7 مايو 2022
الحرب الروسية – الأوكرانية وتداعيات شح الأسمدة البوتاسية

بقلم :أ.د. طالب أبو شرار

وطنا اليوم_البوتاسيوم أو البوتاس (pot-ash) أو بالعربية “رماد الجفنة” في إشارة الى الصورة المبكرة التي استخلص فيها الإنسان هذا العنصر. في الحقيقة، آباؤنا العرب المبدعون هم أول من توصل الى هذه الطريقة لكنها كانت مكرسة للحصول على “رماد التنانير” أي أكاسيد العناصر القلوية كالصوديوم والبوتاسيوم والأرضية القلوية كالمغنيسيوم والكالسيوم الناجمة عن حرق النبات.

عرف العرب أن هناك نباتات تستطيع مراكمة تلك العناصر في أوراقها وهي بذلك تزدهر في السبخات الملحية القلوية أي الغنية بالصوديوم والشائعة في وسط وجنوب العراق وفي مناطق من جنوب وادي الأردن فعمدوا الى ترك تلك النباتات تكمل دورة حياتها قبل أن يجمعوا أوراقها الجافة ويحرقونها في تنور ثم يجمعون رمادها في قدر يضاف اليه الماء ويغلى فترة من الزمان ليزداد تركيز محلوله.

هذا المحلول الفوار هو محلول قلوي من هيدروكسيد الصوديوم بالدرجة الأولى وهيدروكسيدات العناصر القلوية السابقة والناتج عن ذوبان رماد تلك الأكاسيد في الماء والذي إن أضيف اليه الزيت ومزج جيدا يتكون منه الصابون السائل فيصب في قوالب قبل أن يبرد ويتصلب قوامه. كانت تلك طريقة صناعة الصابون التي أتقنها تحديدا أهل جبل نابلس الفلسطينيون مستخدمين زيت الزيتون الذي يرد الى مدينتهم من كافة مناطق سنجق البلقاء الذي كانت نابلس مركزه الإداري ومن جبل عجلون وجواره.

كانت نابلس تصدر كميات ضخمة من الصابون الى بلاد العرب خاصة الى مصر بل والى بلاد أوروبية مجاورة مثل مالطا وقبرص ودويلات المدن الإيطالية الساحلية على المتوسط كما تقول كتب التاريخ في ذلك الوقت. ولأن مزيج القلي (الذي نقل الى الغرب بنفس اسمه Alkali) والزيت كان يصب في القوالب (والعملية بالعربية تسمى صابونا فقد أخذ الغرب أيضا عنا ذات الكلمة (Soap).


وبهذه المعرفة العربية العلمية عمد الغربيون خاصة بعد اكتشاف كميات كبيرة من زرق الطيور البحرية وخفافيش الكهوف (المعروف باسم جوانوGuano) على سواحل البيرو وجزرها الجافة خاصة مجموعة جزر شنشا الغنية بهذا المورد الذي يحتوي نترات الصوديوم وبدرجة أقل البوتاسيوم. استخدم الجوانو كمحسن للتربة الزراعية كما استخدم نوعه المتراكم في الكهوف التي تؤي اليها الخفافيش والطيور البحرية كمصدر لملح البارود وهو خليط من الفحم (Charcoal) والكبريت ونترات البوتاسيوم. لقد أدى التنافس الشرس على الجوانو الى حرب طاحنة عرفت بحرب شنشا بين أسبانيا الاستعمارية من جهة والبيرو وتشيلي من جهة أخرى خلال الأعوام 1864-1866.

في وقت مبكر بعيد اكتشاف القارتين الأمريكيتين ومورد الجوانو ذاك وقبل اكتشاف التغذية المعدنية للنبات في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتالي أهمية الأسمدة الكيماوية، شحنت السفن التجارية كميات هائلة من الجوانو ليستخدم في تخصيب التربة الزراعية في أوروبا مما أدى الى ازدهار الزراعة هناك بل وزيادة ثروات دولها الاستعمارية وعدد سكانها ليتفوق على عدد سكان العالم الإسلامي تحت الراية العثمانية ويحسم الصراع التاريخي بين الكتلتين لصالح الغرب منذ ذلك الحين والى وقتنا الراهن.

بالطبع، ساهمت عوامل أخرى في زيادة عدد السكان والثروات الأوروبية كان من أهمها نهب ثروات القارتين الأمريكيتين خاصة الذهب المكسيكي وتوريد نتاج الحبوب القادمة من الغرب الأوسط الأمريكي المتميز بالتربة العضوية الخصبة جدا لسد الاحتياجات السكانية المتزايدة من المواد الغذائية.


تظهر هذه المقدمة أن تأثير الأسمدة العضوية (الجوانو) امتد ليغير مجرى الصراع بين القوى الكبرى منذ القرن السابع عشر وربما تجد البشرية نفسها هذه الأيام على مفترق طريق لا يختلف كثيرا عن ذاك الذي انتصب دون تحذير أو مقدمات قبل نحو ثلاثة قرون مجسدا بأعمال ألكسندر فون همبولدت (1769-1859) التي وثقت أهمية الجوانو كمحسن لإنتاجية التربة من المحاصيل المختلفة.

البوتاسيوم واحد من ثلاثة عناصر سمادية رئيسية تضاف باستمرار الى المحاصيل الزراعية لزيادة إنتاجية الأرض وهي النيتروجين والفسفور والبوتاسيوم.

المثير هنا هو تفرد البوتاسيوم بشح مصادره الطبيعية وارتفاع كلفة استخراجه أو تصنيعه سمادا. المصدر الرئيسي للنيتروجين هو مخزونه الهائل في الغلاف الجوي في صورة غازية (نحو 79% على صورة نيتروجين) يمكن تحويلها الى صورة كيماوية يستفيد منها النبات عن طريق إختزاله الى أمونيا باستخدام ضغط وحرارة مرتفعتين جدا وبوجود الهيدروجين الغازي أيضا. وبوفرة المواد الخام، تنحصر كلفة انتاج الأمونيا في استهلاك الطاقة فقط.

يمكن أيضا تحويل الأمونيا الى سماد اليوريا بمزج غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الأمونيا تحت ضغط وحرارة مرتفعتين أيضا أي أن الكلفة الرئيسية هنا هي كلفة الطاقة التي يبدو أن تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية ستؤثر سلبا على قدرات توفيرها، ومن ثم ارتفاع أسعار مواردها النفطية والغازية بل والفحم الحجري في السوق العالمية. بالطبع، يمكن انتاج أسمدة نيتروجينية أخرى شريطة توفر المواد الخام اللازمة مثل الكبريت لإنتاج سماد كبريتات الأمونيوم أو الفوسفات لإنتاج تشكيلة من أسمدة فوسفات الأمونيوم.


بخصوص الأسمدة الفوسفاتية، هنالك وفرة في رواسب الصخور الفوسفاتية حول العالم والتي تستخدم في تصنيع تلك الأسمدة. يتوفر الفوسفات بكميات كبيرة في العديد من الأقطار أهمها المغرب (13.5% من المخزون العالمي) والأردن (3.4% من المخزون العالمي) والجزائر والعراق ومصر أما على الصعيد العالمي فهناك وفرة في ذلك الخام في الصين (ومخزونها يعادل 45% من المخزون العالمي) والولايات المتحدة (12.4% من المخزون العالمي) واستراليا والبرازيل وجنوب افريقيا والمكسيك لكن فيما يخص البوتاسيوم فموارده الطبيعية أقل بكثير من موارد الفوسفات. تتربع على قائمة الدول المصدرة للبوتاسيوم عالميا كندا خاصة في مقاطعة ساسكاتشيوان (Saskatchewan) بإنتاج يعادل 14.0 مليون طن سنويا أي نحو 32.0% من الإنتاج العالمي في العام 2020 ثم روسيا (7.6 مليون طن) تليها بيلاروسيا (7.3 مليون طن) فالصين (5.0 مليون طن).

يتركز ملح كلوريد البوتاسيوم (Muriate of Potash) في طبقات رسوبية ملحية تتموضع على أعماق مختلفة تحت سطح الأرض.

يستخرج الملح ذاك بضخ مياه ساخنة الى تلك الطبقات ثم تسترجع تلك المياه مع حمولتها من الأملاح الذائبة ويفصل كلوريد البوتاسيوم عن بقية الأملاح الذائبة عبر عمليات صناعية مكلفة اقتصاديا ولا مجال لشرحها في هذه المقالة.

بعد الدول الأربع السابقة، تأتي دول أهمها المانيا (3.0 مليون طن) ففلسطين المحتلة (2.0 مليون طن) والتي انضمت الى نادي منتجي هذا العنصر منذ بداية العام 1930 وعبر امتياز منحته حكومة فلسطين تحت الانتداب البريطاني الى شركة البوتاسيوم الفلسطينية، فالأردن (1.5 مليون طن) والأخيران يستخرجان كلوريد البوتاسيوم من مياه البحر الميت شديدة الملوحة (33.7% أي أقل قليلا من عشرة أضعاف ملوحة مياه البحار المفتوحة).

بعد نكبة العام 1948 وتأسيس دولة “إسرائيل” في أيار من ذلك العام على أنقاض الكيان الوطني الفلسطيني، قامت الحكومة الصهيونية بأكبر عملية سطو في التاريخ الإنساني إذ استولت على شركة البوتاس الفلسطينية مثلها مثل كافة الموارد الطبيعية الفلسطينية كموارد المياه العذبة خاصة مياه نهر الأردن وبحيرة طبريا والأراضي الأميرية الشاسعة والبنى التحتية الفلسطينية كالمطارات والموانئ والبنوك بما في ذلك الحسابات والودائع الشخصية والاحتياطي النقدي والعقارات والبيوتات الخاصة بما فيها من مقتنيات عائلية مثل المجوهرات والملابس الشخصية وخطوط السكك الحديدية التي ربطت معظم المدن الفلسطينية بعضها ببعض وبخط سكة حديد الحجاز ومنطقة قناة السويس ومدينة دمشق ومن ثم اسطنبول.

كل ذلك تم بناؤه بأموال الشعب الفلسطيني قبل نهاية الحكم العثماني، لا بل ساهم ذلك الشعب المنكوب متبرعا بالأموال في تمويل خط سكة حديد الحجاز نفسه. لقد حولت الحركة الصهيونية واحدا من أكثر شعوب الأرض إنسانية وتقدما وحضارة ضاربة في عمق التاريخ الى جموع من اللاجئين الباحثين عن مأوى تحت سماء مفتوحة لا ترحم.

وبالعودة الى البوتاسيوم، فإن ما يتلو فلسطين والأردن من دول لا ينتج أي منها المليون طن سنويا. تبين الأرقام السابقة أن مجموع ما تنتجه الأقطار الثلاثة (روسيا وبيلاروسيا والصين) يتجاوز 45% من مجموع الإنتاج العالمي. وبما أن تلك الدول ذات سياسة متناغمة فيما يتعلق بالحرب الروسية-الأوكرانية والتجارة الدولية فمن غير المتوقع أن تلجأ الصين مثلا الى العمل على تعويض النقص في انتاج البوتاسيوم عالميا إن حجبت تصديره روسيا أو بيلاروسيا أو كلاهما عن أي من الدول التي ترغب في التضييق عليها بسبب موقفها من الحرب الدائرة في أوكرانيا.

من الواضح هنا أن تشعب عمليات استخراج وإنتاج السماد البوتاسي تستهلك قدرا لا بأس به من الطاقة، الأمر الذي سيؤدي حتما الى ارتفاع سعر الوحدة السمادية منه في حالة توفره.


لا يستخدم كلوريد البوتاسيوم كمركب سمادي في البلاد العربية ذات المناخ الجاف لأنه يحتوي على عنصر الكلوريد المسبب لملوحة التربة والسام للنبات في حالة تراكمه في التربة. لكن، بالمقابل، يمكن استخدام ذلك المركب كسماد في البلاد ذات المناخ الرطب التي لا تهددها الملوحة.

وبناء على ما سبق، فإن أكثر سماد كيماوي شيوعا في البلاد العربية جافة المناخ هو كبريتات البوتاسيوم لكن هناك أنواعا أخرى أكثر كلفة وتستخدم بالتالي في تسميد النباتات ذات المردود المالي المرتفع كالورود ونباتات الزينة المزروعة داخل الدفيئات أو الزراعات المائية.

من أهم تلك الأسمدة فوسفات البوتاسيوم أحادي أو ثنائي الهيدروجين وفوسفات البوتاسيوم أحادي أو ثنائي الأمونيوم.

يتطلب تصنيع تلك الأسمدة عمليات هندسية شبة معقدة مما يرتب كلفا إضافية عند إنتاجها.


البوتاسيوم عنصر سمادي رئيسي يؤدي شحه في التربة الزراعية الى تدن كبير في الإنتاج الزراعي خاصة المحاصيل التي تراكم الكربوهيدرات كالبطاطا أو السكر كقصب السكر والشمندر بل وحتى الأعناب بأصنافها واستخداماتها المختلفة والتفاحيات.

قد تكون الدول الفقيرة أكتر الأقطار عرضة لهذه المحنة نظرا لأن الأسمدة البوتاسية أغلى من بقية الأسمدة فيعمد المزارع العربي “الفقير” الى تقنين كمياتها المضافة للتربة. في الماضي غير البعيد، كانت هناك مناطق في بعض الأقطار العربية يتوازن استهلاك محاصيلها من البوتاسيوم مع ما يرد الى تربتها من ذلك العنصر عبر الطمي المحمول مع مياه الأنهار خلال موسم الفيضان كالأراضي الواقعة على ضفاف النيل الأزرق في السودان ودلتا النيل في شمال مصر وأراضي وسط وجنوب العراق.

في تلك المناطق اكتفى المزارعون بخصوبة التربة الطبيعية لإنتاج محاصيلهم لكن إقامة السدود على أعالي مجاري الأنهار كالسد العالي في أسوان حجب الطمي عن الأراضي المروية مما حتَم ضرورة إضافة الأسمدة البوتاسية لضمان جودة وكمية الإنتاج الزراعي كما حد بل وأنهى تقليدا عرف منذ آلاف السنين وهو استخدام تربة الدلتا الزراعية في صناعة الآجر الحراري.

وبسبب غياب الطمي المحمول مع مياه النيل أصبحت السواحل المصرية على المتوسط أكثر حساسية للتآكل أمام أمواج البحر وتياراته. ولتكتمل الحلقة، سيعمل سد النهضة الأثيوبي على الحؤول دون ذلك الطمي والسد العالي نفسه.

أما في العراق فقد حدَت السدود المقامة على الفرات ودجلة في تركيا وإيران ليس فقط من ورود الماء بل وحمولته من الطمي الى جنوب العراق وفم الخليج الذي تشكلت فيه جزر طميية مثل جزيرة فيلكا التي من المتوقع أن تتعرض شواطئها في مقبل الأيام الى التآكل بسبب نقص الطمي الوارد الى مياه الخليج وليس الى الاتساع كما كان الحال في السابق والذي لو استمر بوتيرته المعهودة كان سيؤدي الى التحام تلك الجزيرة بالبر الرئيسي.


وبعد، فإن كل المؤشرات المنطقية تشير الى إمكانية استمرار الحرب الروسية-الأكرانية فترة طويلة قد تقاس بالسنين وليس بالشهور. هذه الحالة من عدم الاستقرار في إمدادات الغذاء العالمي مصحوبة بتقليص المساحات الزراعية في السهوب الأوكرانية التي أصبحت مسرحا للمعارك وخرجت، بالتالي، من معادلة انتاج الحبوب لا بد وأن تؤثر سلبا على قدرات توفيره في الدول الفقيرة عبر العالم وليس في افريقيا جنوب الصحراء كما توقع البعض.

لقد حقق الإنسان قفزة كبيرة في انتاج الغذاء في أعقاب الثورة الخضراء في نهاية ستينات القرن الماضي إذ تقدر الزيادة في انتاج الغذاء خلال الفترة 1961-2019 بنحو 800%. المخيف في هذا الصدد أن شح الأسمدة البوتاسية، التي قد تمكن وفرتها بعض الدول المنتجة للحبوب من رفع قدرتها الإنتاجية وتعويض جزء من فاقد الأرض الزراعية الأوكرانية، ستعمل على عكس قفزة الثورة الخضراء، ربما خلال فترة قصيرة وبمدى متسع ستنتج عنه مجاعات كبرى.

وبما أن تربة كل الأقطار العربية لم تعد غنية بعنصر البوتاسيوم (خاصة التربة المزروعة بعليا أي ديميا) إما لاستنزاف مخزونها من العناصر الغذائية عبر الزراعة المستمرة منذ فجر الحضارات الإنسانية، ربما عبر آلاف السنين، في بعض المناطق أو بسبب حجز الطمي خلف السدود المقامة على النيل أو النيل الأزرق في مصر والسودان أو على الفرات ودجلة في العراق فإن نذر المجاعة قد تبدو قريبة في بعض أصقاع العالم العربي إن لم تتخذ إجراءات جماعية استباقية للحؤول دون ذلك.

مثل تلك الإجراءات تستلزم وقفة مسؤولة من قبل بعض صانعي القرارات في بلادنا لتوجيه جزء من وفرة رأس المال العربي نحو تطوير الموارد المائية المستدامة وتقنيات الإنتاج الزراعي ثم استصلاح واستزراع الأراضي في بعض الأقطار الواعدة زراعيا لتحويل تلك الأقطار من حالة الجرار الفارغة الى تلك المتمثلة بالأهراءات المتخمة بمخزونها من الحبوب والغلال التي تقيم أود المواطن الفقير وتغني الجميع عن استيراد ما يأكلونه من الخارج.
أستاذ الأراضي والمياه
الجامعة الأردنية