نضال العضايلة
من المفارقات الرائعة ان يخرج صديقي الكاتب الكبير سالم سرية ما كتبه على قارورة تراب وصلته هدية من فلسطين للعلن، وذكرى اغتيال الشهيد البطل وصفي التل، وصفي الذي احب فلسطين وناضل من اجل تحريرها، فاستشهد من اجل مشروع كان قاب قوسين او ادنى من تحقيقه لولا ان طالته رصاصات الغدر.
حين تأملت ما كتب سرية، ادركت ان حفنة تراب صغيرة على ارض فلسطين، تجعلك تلمس أن ثمة فرقا بين تراب وتراب، فهذا أحمر عادي وهذا أبيض، لكنك حين تنزح الى خارج فلسطين ترى ألوانا كثيرة للتراب، بأشكال مختلفة تتكون بفعل الماء والرياح، فتعرف كم هي فلسطين غزيرة التنوع في التراب.
يا سالم يا صديقي هل شممت تراب الوطن، هل تخيرت وقت نزول الأمطار الأولى لتهنأ بشم رائحة التراب في لقائها الأول بالمطر في تشرين، فثمة رائحة إنسانية فيه، رائحة التخمر والطعام والجسد الشهي، فتمسكه وتقول لماذا لا نأكل الطين حين نجوع؟ فتجيب حتى لا نأكل أنفسنا نحن المخلوقين منه، فتطمئن لشعور الخلق من الطين، وتتأمل كم من المصنوعات والمنتوجات الفنية تم صنعها من الطين وليس نحن البشر فقط..
تراب فلسطين يا سالم ليس مثله تراب، تراب فلسطين يا سالم مجبول بدماء ازكى الناسن واطيب الناسن مجبول بدماء شتى ممن دافعوا عن ثراهان وكانوا نداً للمغتصب اللعين، تراب فلسطين يا سالم هو من انتج البرتقال الريحاوي ونظيره اليافاوي، فأراك كدت تغض البصر عن الإجابة، ففي الوصف ما أغنى عنها، فهل بعد تعداد بعض التفصيل عن تراب فلسطين ومائها يظل هناك مجال للتساؤل عن الفرق بين البرتقال اليافي عن الريحاوي عن الجنيني عن الكرمي وعن كل برتقال يعيش في البلاد! وهل يظل هناك مجال للتساؤل عن الفرق بين طعم الزيت والزيتون ونكهته من بلد إلى آخر ومن جبل إلى جبل آخر، وعن الفرق بين عنب الخليل والقدس وكرمل حيفا، وعن رائحة الأزهار في الغور عنها في الجليل.
والحق يا سالم يا صديقي أقوله، أنني في كل لحظة حزن، أو بكاء، كنت أتذكر أخوتي في فلسطين فأنتعش قليلا، فتأتي لحظات أمل، وكأن يدا من القدس او الخليل او نابلس او قلقيلية، او من اللد او الناصرة او عكا او حيفا تكفكف ما انهمر من عبرات على وجنتي، فأقول لنفسي: سيأتي يوم واشم تلك الرائحة الزكية، او اتناول برتقالة يافاوية، او اتذوق طعم الزيت النابلسي.
لذلك لم أقدم لك هذه الكلمات كصحفي فقط، بل كمواطن ارديسطيني يعيش النص، بل يشارك فيه ولا يقف عند حدّ الوصف.
كم من الصعب يا صديقي أن يحيا المرء نهباً للرعب الكياني، وأن يصير بلا بيت، أو أن يكون من الأساس مسروق الوطن. أعرف أنكم في فلسطين، تعيشون حكاية هذه المأساة منذ 1948، لكن أجمل ما فيكم أنكم تقهرون اليأس ولا تفقدون الأمل بالاستقلال والحرية، وأنكم تصنعون كل يوم معجزة الانتصار على الموت، بالحياة وبالموت معاً.
لا أريد أن أدّعي بأنني أشعر بالحزن، ففلسطين هي لحظة تتفتح فيها أكمام وردة الفرح، لكنني أشعر بالمرارة، ففلسطين التي صنعت وعينا الثوري في شبابنا لا يحق لها أن تغيب في لحظة النهوض الثوري التي نعيشها.
يا سالم في العام 1950 كتب وصفي التل رحمه الله رسالة الى صديق له ترك فلسطين وهجرها، فقال له “وإذا شئت سنأخذك إلى قلقيلية وطولكرم، ونريك من وراء أسلاك الحدود بساتين البرتقال والليمون، وقد يمنّ الله عليك بنسمة معطرة من النسمات التي تعرفها.. سنريك كل هذا، لا لنجعلك تتحسر وتبكي على الطلول، ولا لنبعث في نفسك حنين الشعراء الباكين النائحين، لا.. ليس هذا قصدنا.. إنما قصدنا هو أن نزيد في لهيب الشعلة التي تستعرّ في قلبك.. أجل نريد إوارها أن يزيد، وأن يصبح لهباً لافحاً حرّاقاً يدفعنا للعمل والنضال، نريد هذا اللهب أن يجلو الصدأ وينير الطريق، ويزيد من إيماننا بأنفسنا ومعنى وجودنا”.