د. بسام البطوش
نائب سابق ومدير مركز فضاءات للدراسات والاستشارات والبحوث
في ذكرى استشهاد وصفي التل لا جدوى من الكتابة بهدف التعريف به، أو لمجرد الرثاء والثناء، لأن وصفي أكبر من ذلك كله، وليس له حاجه بذلك، فالكتابة في ذكراه ينبغي أن تتركز حول إعادة قراءة سيرة الرجل وتجربته فكراً ومنهجاً, نظراً لسوء الفهم الذي ما زال البعض يتعامل به مع سيرة دولة الشهيد التل وتجربته .
البعض وضع وصفي وتجربته في مربع الاتهام والإدانة انطلاقاً من أحقاد سوداء وتصورات ومواقف مسبقة، كانت قد قادت أصحاب العقول والضمائر السوداء إلى اغتياله مشروعاً قبل اغتياله إنساناً.أما تجار المنظمات السوداء الذين غرقوا في السواد والسوداوية وطحنتهم سوداويتهم، فقد أودت بهم هذه السوادوية؛ فمنهم من قضى نحبه هالكاً في السواد، ومنهم من، عاش لينحر القضية بسوداويته؛ فهل هناك أبشع من هذه النهايات، فبينما ذهب وصفي شهيداً وتخلّد رمزاً، ذهبوا هم يتلاعنون إلى يوم الدين، عليهم لعنة دمهِ الطاهر، ولعنة الأردن الصابر .
أما البعض الآخر فيحاول التمسح بسيرة وصفي وتجربته، محاولاً اجتزاء مواقف وأقوال للشهيد، منزوعة من سياقها المنطقي، لاستخدامها في سياق من المغالطات والتناقضات، وقد غاب عن أذهانهم أن المكانة المرموقة من الحب والتقدير التي أولاها الأردنيون لوصفي لم تتأت من محاولة وصفي التمسح بذكرى أحد، أو محاولته تجيير بطولات الآخرين لصالحه. بالتأكيد فإن وصفي سلك درباً مغايراً، هو الدرب الصعب الشاق غير المأمون، درب العمل والفداء والكفاح، المتوج بالشهادة، منطلقاً من فهم عميق لوطنه وأهله، وتقديرٍ لحجم المخاطر والتحديات، وتصميم راسخ على تحكيم العقل والخلق في معارك النهضة والتحرير.
ويجدر بنا عندما نتحدث عن وصفي التل أن نتوقف عند التزامه العميق بهوية الأمة، وإيمانه الصوفي بالعروبة، وبالوحدة العربية، وعلينا أن نستذكر جهاده في سبيل فلسطين، ولأجل فلسطين قبل أن يكون مدافعاً عن الأردن وشهيداً في سبيل أمنه واستقراره، فالأردن الآمن القوي المستقر هو المنطلق للتحرير عند شهيدنا البطل؛ صاحب شعار (عمان هانوي العرب)، ولا يجوز لمن يتحدث عن وصفي أن يغفل جانباً هاماً في شخصيته وهو التزامه الكامل بمرتكزات المنهج السياسي الهاشمي، فما كان يوماً إلا جندياً مخلصاً وسنداً قوياً للقيادة الهاشمية، وكان دائماً محط ثقتها وتقديرها، ولا أدل على ذلك من أن الملك الحسين طيب الله ثراه كلفه بتشكيل الحكومة خمس مرات خلال سنوات عشر حافلة بالمصاعب والمتاعب والآمال والانجازات .
كان وصفي التل يؤثر العمل على القول، والتطبيق على الشعار، ويعمل ليل نهار لتحويل الأردن إلى ورشة عمل وإعمار، سعياً لخلق الأردن النموذج، ولخلق مجتمع إسبارطه – الذي كان يحلم به – وكان طموحه أن يصل الأردن إلى الاعتماد على الذات، فنراه مؤمناً بالدور الاجتماعي للدولة ومهتماً بخطط التنمية الاقتصادية، والإصلاح الإداري، والزراعة، والتعليم، والصحة، والمناطق النائية، والشباب، والإعلام، والثقافة .
في حكومته الأولى أفرد وزارة خاصة للشؤون البلدية والقروية وكانت هذه الوزارة تختفي بخروجه من الحكم وتعود بعودته، إلى أن استطاع ترسيخها؛ لإيمانه بأهمية الدور المأمول منها فيما يتعلق بتطوير الأرياف والنهوض بالحكم المحلي، وما كان لدولة الشهيد وصفي أن يجلس في عمان معتمداً على هذه الوزارة أو غيرها للقيام بالمهمة، فنجده في غمرة انشغاله بالأحداث الداخلية الدقيقة، غير غافل عن المناطق المحرومة، بل يذهب يتفقد أحوالها ويطلع على ظروفها واحتياجاتها؛ فقد قام مثلا بجولة تفقدية لمحافظة الكرك شاملة لواء الطفيلة، يومي التاسع والعاشر من آب عام 1971 شملت ثمانية وثلاثين قرية، وكانت إحدى تلك القرى التي نعمت بزيارة دولة الرئيس الشهيد هي قرية الطيبة/الكرك، التي كانت آنذاك تعيش حياة بدائية، ومحرومة من البنية التحتية. وكانت المعاناة الأكبر لأهالي القرية، تتلخص في أن فصل الشتاء يعني العزلة والانقطاع عن العالم لأن الطريق الوحيد تجرفه السيول، وهذا يعني أن القرية تنشطر إلى شطرين .
وكانت زيارة دولة الشهيد وصفي للطيبة نهاية المعاناة، فقد وقف على واقع القرية وأدرك حاجاتها،وأصدر تعليماته،وفي الميدان ببناء جسر في مكان هذا الوادي فوراً، غير ملتفت لمحاولات المرافقين من المسؤولين لإبراز المصاعب المالية والفنية للمشروع، وأمر بتطوير شعبة البريد إلى مكتب بريد، وبتحويل المدرسة الإعدادية إلى ثانوية، وبتقديم قرض مالي للمجلس القروي، وبدعم مشروع بناء جامع القرية، وأحدثت هذه الزيارة نقله نوعية في حياة القرية .
هذا هو وصفي الذي نال حب الشعب، واكتسب ثقة القيادة،وهذا هو وصفي الذي استحق الشهادة، وهذا هو أسلوبه في الحكم والإدارة، ومن هنا نال وصفي هذا الحيز الكبير في الذاكرة الوطنية،ولهذا شعر الأردنيون جميعاً بالحزن العميق عند اغتيال دولة الرئيس وما زلت أذكر الأسى الكبير الذي أصاب قريتي ” الطيبة” لهذا النبأ وما زلت أذكر صورة الشهيد، تزين الجدران الطينية لبيوتها المليئة بالعزة والكرامة.