الروائي موسى برهومة
هذه كتابة ساخنة مثل رائحة شراك القمح الذي «تشمره» أم محمد، في حارة المعانية في المفرق.
كتابة حرّة مستنيرة تنتسب إلى الأدب السياسيّ، وترسم عبر سرد أنيق مُحكَم مشهداً عميقاً من سيرة الهامش المرميّ على أطراف الصحراء، وتنهل من الينابيع الاضطراريّة للمرارة والشقاء والتحدّي، فينتصر الإنسان ويصبح الهامش مركزاً، فما السرّ في ذلك؟
إنّـه الكاتب الذي يشقّ العتمة بمصباح إرادته، فيعيد إنتاج زمنٍ رسمه بريشة روح سخيّة، فيّاضة بالتفاصيل، عامرة بالذكريات، ومحفّزة على الأمل، في لحظة يغمرها الضياع، وانعدام اليقين.
محمد داودية، الصحفيّ والكاتب، والسفير، والنائب، والوزير، لم يشأ بعد تقاعده من العمل الرسميّ، أن يتقاعد عن العمل العام، فوظّف تجاربه وخبراته من أجل مواصلة رفع الصّخرة فوق أعلى الجبل، في جهد سيزيفيّ، لا يعرف الملل، فقدّم مبادرات، وحرّك مياهاً راكدة، ورمى حجارة ثقيلة في ليل الصمت.
يحفر «من الكسّارة إلى الوزارة» في غور ذاكرة بعيدة، ويوقظ النسيان، ويتقدّم برؤاه بلا خوف أو وَجل أو حسابات، وهذا سرّ آخر لمثقف يشكّل نموذجاً استثنائياً في نادي السياسيين الأردنيين الذين رضي أغلبُهم بالصمت، ولاذوا بالعزلة، وراحوا يتأمّلون حركة الحياة من خلف شبابيكهم وشرفاتهم وأبراجهم، متكئين على تاريخ شفويّ سيموت معهم، وهذا سرّ آخر من أسرار كاتب يسعى إلى هزيمة الموت.
ما فتنني في هذه الكتابة، هو اللغة المسيطَر عليها من قبل كاتب «حرّيف» لا يغرق في البلاغة، ولا يتباهى بقدرته على إنتاج الغرائبيّة والواقعيّة السحريّة، لكنّه يفعل ذلك وأكثر من حيث لا يُخطط (مع أنه يُخطط بلا ريب)، وهذا سرّ آخر سيبوحُ به كثيراً هذا السردُ البهيج.