الدولة المدنية بين الفكر السياسي الإسلامي والغربي …. ( 1)

2 مارس 2021
الدولة المدنية بين الفكر السياسي الإسلامي والغربي …. ( 1)


بقلم: د. مصطفى التل

الدولة المدنية كمصطلح اكتسب أهمية كبرى بعد أحداث ” الربيع العربي” , إذ الاشتباكات الحوارية والتنظيرية والدعوية وحتى الحراكية , أصبحت تتمحور حول مفهوم ( الدولة ) التي تنشدها الشعوب العربية .

وبوصول بعض الحركات الإسلامية للحكم  في بداية ” الربيع العربي” , زادت الاشتباكات الحوارية حول مفهوم الدولة  بين التيارات العلمانية من جهة وبعض التيارات التي تنادي بفكرة ( الدولة الإسلامية ) من جهة أخرى ,ونوع الدولة التي يؤسس لها من جديد , هل هي الدولة  من منظور فكري إسلامي , أم تلك الدولة الغربية حسب المنظومة الفكرية الغربية ؟!

وسط هذه الاشتباكات الحوارية , ظهرت دعوى ” الدولة المدنية ” بشكل واضح جدا  كحالة استباقية تأسيسية وسط تخوف من أن الدولة العربية في حالة تلاشي سريع , مما أعطى الاشتباكات الفكرية رافعة نحو الالتحام الفكري المباشر , مع اكتناف هذا الالتحام الفكري حول مفهوم الدولة المدنية , التباسا , وغموضا شديدا , لدرجة أن هذا الالتباس والغموض توزع بين ما هو مدّنس ومقدس , وتنديد وتأيد , بل عاد هذا الالتحام الفكري  بالشعوب العربية الى عهد ما بعد الاستعمار , ومأزق الأمة العربية في مفهوم الدولة بحد ذاتها , وتنوعها ( جمهوري , ملكي , يميني , يساري , ثوري , علماني , ديني )

وبالعموم , انقسم العالم العربي في مفهومه للدولة المدنية الى 3 أقسام رئيسية هي :
القسم الأول وهو القسم الرافض للدولة المدنية , باعتبارها أنها دولة ستبعد الدين عن الحياة العامة , وتجعله محصورا بالفرد على شكل  شعائر خاصة به , وله الحرية في آدائها أو عدم آدائها .
القسم الثاني وهو القسم الذي يدعو إلى تغريب العالم العربي في كل شيء  ومنها نظمه السياسية  , ويدّعي أن تراثنا والماضي الذي نعيش فيه , هو العائق الذي يقف أمام تقدمنا , وعلينا بالقطيعة مع ماضينا إن أردنا أن نندمج مع هذا العالم ونتقدم فيه .
القسم الثالث  وهو القسم الذي يزاوج بين الرأيين , محاولا أن ينسّق ويتماشى ويتماهي مع القسم الأول والقسم الثاني . مع تدجين بعض المصطلحات , وتهذيبها , لتكون صلة وصل بين القسمين .

وباعتبار أن الفكر السياسي ونظرية العقد الاجتماعي , هما الأرضية الخصبة لانطلاق مفهوم ( الدولة المدنية ) في الفكر الغربي على العموم , والتي تقوم على نظرية الحق الذي ينشأ مرتبطا بحدود الوطن ذاته على مختلف تنوعه الديني والسياسي والعرقي , سنقوم بعرض سريع للفكر السياسي الغربي والإسلامي , ونظرية العقد الاجتماعي في كلا المنظومتين , محاولين قدر المستطاع الوصول إلى المفهوم في المنظومتين الإسلامية والغربية , وهل يوجد تناقض أو تآلف بينهما .

* مفهوم الدولة المدنية حسب ما تبلور حتى الآن :

الدولة المدنية  هي دولة يحكمها الدستور (العقد الاجتماعي) ,  وتشكل منظومة التشريعات والقوانين مرجعية حاكمة لتنظيم التوازن والتلازم بين السلطات والصلاحيات  , وطريقة التداول على السلطة، وضمان حق المواطنين بممارسة حرية الرأي والتعبير والتنظيم ، والشعب  هو مصدر السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية من خلال ممثلين هم يختارونهم، و القانون  الذي هو من اختيار الشعب من خلال ممثليهم  هو الحاكم على كل مكونات الدولة أفرادا وسلطات، وتُفوّض السلطة الحاكمة بقيادة الدولة تفويضا مقيدا لا مطلقا نحو مصالح الوطن والمواطنين.

* الدولة المدنية في الفكر الغربي :

المتابع للفكر الغربي السياسي ومفهومه للدولة , سيجد بدون أدنى صعوبة , أن هذا الفكر خاض صراعات مريرة وطويلة مع نفسه ومع سلطات كانت مهيمنة على هذا الفكر حتى وصل إلى بلورة مفهومه السياسي للدولة ومكوناتها  وتمدينها , كما هي اليوم .

فالكنيسة الغربية , أسست عقودا طويلة لهيمنتها على الفكر الغربي , وجعلت من هيمنتها المطلقة , سببا رئيسا لتأسيس حالة ثورية عامة فكرية ضد هذه الهيمنة المطلقة , هي ثورة فكرية في سبيل تحرر الإنسان  وتحرر فكره , وقطع كل فكر مهيمن غير فكر الإنسان نفسه , ولو كان هذا الفكر باسم الدين .

رحلة شاقة وطويلة ومعذّبة للفكر الغربي كانت هي عنوان ثورته الفكرية ضد كل شيء متصل بالدين , وما يأتي من الدين , ولكن ما هي المراحل التي خاضها الفكر الغربي ليؤسس لفكرة  تمدين الدولة في الفكر الغربي …؟!

* مرحلة الدولة ذات السلطة الدينية المطلقة :

هي مرحلة الحق الالهي للملوك والأمراء في حكمهم لمناطقهم , حكما مطلقا, وحكمهم هو الحقيقة الوحيدة المطلقة  , بدون ضابط قانوني ولا دستوري , لهم ما يشاؤون من تصرفات عامة وخاصة , ولهم أن يحكموا كيفما شاؤوا وبالطريقة التي يشاؤون بها , وأي اعتراض على حكمهم , هو اعتراض على حكم الإله بحد ذاته .

ويمكننا استدعاء كتابات ( جان بودان ) و ( جاك بوسويه ) من هذه المرحلة ” 1530 – 1704م ”  , وهم المنظرون الرئيسيون لحكم الملوك والأمراء كحكم الهي في هذه المرحلة , والمؤسسون لهذه المرحلة .

( جان بودان )  المنظّر والفيلسوف الفرنسي , صاحب نظرية السيادة , وأستاذ القانون في تولوز , وهو عضو برلماني في باريس, ومستشار هنري الرابع   ,  يقول  في كتابه الأشهر الذي يحمل عنوان ( كتب الجمهورية الستة )  :

بما أنه لا يوجد أي أحد أكبر في الأرض بعد الله  غير الأمراء السياديين , وأن الله اختارهم ضباطا  ليقودوا الناس الآخرين , فإن الحاجة ضرورية للنظر في مكانتهم من أجل احترام جلالتهم بكل طواعية , والإحساس بهم , والتحدث عنهم بكل شرف , لأن الذي يحتقر أميره صاحب السيادة  يحتقر الله  الذي هو صورته على الأرض ” .

بينما ( جاك بوسويه ) الاسقف الفرنسي وعالم اللاهوت , والمربي الخاص للملك لويس الرابع عشر ,   كان أكثر وضوحا في تحديد الطاعة من الشعب للملوك والأمراء الذين هم صورة الله على الأرض , فيقول حسب ما أورد العالم الغربي ( روبرت بالمر ) في كتابه ( تاريخ العالم الحديث ) في معرض حديثه عن تلك المرحلة , يقول بوسويه :

”  إن سلطة الملك مطلقة , لا يمكن لأحد أن يحاسبه عليها  سوى الله ..لأن الملك ظل الله في أرضه , وموهوب بعقل أرجح من غيره  من بقية الناس ” .

فلويس الرابع عشر أطلق مقولته في الحكم ( الدولة أنا , وأنا الدولة ) في إشارة إلى حكمه المطلق الذي لا ينازعه أحد فيه , كصورة الله في الأرض , دخل في أربع حروب مدمرة , مع ترهل دولته من الداخل ماليا , فكان يبتلع كل ما يدخل  للخزينة من أموال , وينفقها على ملذاته الخاصة , ومبالغته في الاحتفالات الباذخة , مع حروب مدمرة لا ترحم مع عموم أوروبا, استمر حكمه المطلق لمدة 72 سنة .

أما هنري الرابع , فكان غارقا في حرب أهلية طاحنة في فرنسا , بين البروتستانت والكاثوليك , ووقعت مذبحة سان بارتيلمي  التي ذهب ضحيتها آلاف من معتقلي البروتستانت الذين قدموا لباريس لحضور زفافه , ففر هاربا , تاركا  معتقده البروتستانتي , واعتنق المعتنق الكاثوليكي , فالكاثوليك لم يثقوا به , والبروتستانت اعتبروه خائنا …. وجرت حرب طاحنة …تحت ظل حكم مطلق كلٌ يدعي انه صاحبه كحق الهي , ولكنه بالمقابل كان طلب التحالف مع الخلافة العثمانية , وحصل هذا الحلف , واستقبل سفارة عثمانية من الخليفة ( محمد الثالث ) عام 1601 . طمعا في استمرار حكمه وحمايته .

* مرحلة تأسيس  مفهوم الدولة صاحبة السلطة المطلقة المستمدة من العقد الاجتماعي :

الراهب ( مارتن لوثر) قاد حركة ثورية سرعان ما انتشرت في عموم أوروبا , محتجا على السلطة الكنسية المطلقة من خلال الملوك الآلهة , أشعلتها بشكل مباشر بيع صكوك الغفران للشعوب ,  فحرك ثورة عارمة فكرية  وجسدية , عنوانها ( تحرير المسيحيين من التصور الإكراهي الميتافيزيقي للدين المسيحي الكنسي وتسلطه ) . وان السلطة المطلقة لم تعد مقبولة من الشعوب الأوروبية برمتها , سواء الكنسية أو الملكية الإلهية .

ظهر في هذه الفترة عالم الرياضيات والفيلسوف والقانوني الانجليزي ( توماس هوبز ) , الذي كان مناصرا للملكية المطلقة , ولكن ليس على طريقة وفلسفة ( جاك بوسويه ) و لا  ( جان بودان )  , اذ عمل على تكريس فلسفة الملكية المطلقة من خلال  ( العقد الاجتماعي ) , كرد طبيعي على الملكية الإلهية المطلقة التي أسس لها كل ( بوسويه ) و( جان بودان ) , مستبعدا الدين كمنظم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم , والحاكم المطلق ليس طرفا في هذا العقد .

يمكننا هنا استدعاء كتابه الشهير المعنون بــ ( اللفياثان ) , والذي شرح من خلاله نظرية ( العقد الاجتماعي ) بين أفراد المجتمع بشكل عام وبين تمدنهم في دولة , من خلال انتقال الفرد من حالة الفوضى التي تحكمه , و حالة شريعة الغاب التي يعيش فيها , الى حالة التمدن في دولة و التي يؤسس لها بنظريته المسماه ( العقد الاجتماعي ) .

يقول هوبز في كتابه : ” هذا العقد هو بمنزلة اتفاق اختياري بين جميع أفراد المجتمع , يتنازل فيه كل فرد عن حريته ليمنحها لحاكم يضطلع بمهمة حمايته ومعاقبة كل معتد عليه , ويخضع الكل لسلطة هذا الحاكم ولقانونه إلزاماً ” .

ويوضح هوبز الغاية من ذلك بقوله في نفس الكتاب : ” تمكين هذا الشخص من ممارسة القوة والوسائل الممنوحة له من الجميع , والتي يعتبرها متلائمة مع سلمهم  ومع دفاعهم المشترك , أما الطرف المودع لديه هذا الشخص فيدعى بالحاكم المطلق ” .

ويستمر هوبز في شرح نظريته ( العقد الاجتماعي ) , وهو لا يعتبر الحاكم المطلق طرفا في هذا العقد , يقول : ” طالما أن  الحق في أن يكون ركيزة لشخص الجميع , ممنوح لمن جعلوه حاكماً مطلقاً , من خلال اتفاقية معقودة فيما بينهم من قبل كل فرد , وليس عبر اتفاقية عقدها مع كل منهم , لذلك أي فسخ  للاتفاقية غير جائز من جهة  الحاكم المطلق ,  ومن ثم لا يستطيع أي فرد من أفراده التحرر من الخضوع له ” .

إذن بالملخص العام ….هو عقد بين افراد المجتمع يفوضون بموجبه حاكما مطلقا عليهم ولا يلتزم بأي قانون  , يحميهم ويوفر لهم الحماية , ويضمن حريتهم , في تمدن في دولة , الدين لا علاقة له بهذا التنظيم مطلقا , وهو عقد ملزم لأفراد المجتمع , لا يستطيع الحاكم المطلق أن يفسخه ولا يستطيع أي فرد من المجتمع أن يتنصل منه .

– ملاحظة فرعية في هذه الفترة :

هنا ثارت قضية تنظيم الحياة العامة للأفراد  حسب العقد , من غير المعقول أن يعقد  جميع أفراد المجتمع فردا فردا هذا العقد ,  ويشرفوا على تنظيمه وتطبيقه .

برز هنا عالم اللاهوت الهولندي ( يسير باروخ سبينوزا ) , وهو يهودي الديانة الأصل , تخلى عن يهوديته , واعتنق الطائفة البروستاتنية , إذ أيد ما جاء به هوبز , ولكنه زاده وضوحا بضرورة ايجاد سلطة مجتمع تنظم الحياة العامة على أساس العقد الاجتماعي , أسماها لهذه السلطة بــ ( الديمقراطية ) , يكون فيها الفرد مواطنا يخضع لما أقرته الجماعة المتعاقدة  بصفته مواطنا من أجل المصلحة العامة .

يقول ( سبينوزا ) في كتابه المعنون بــ ( رسالة في اللاهوت والسياسة )  :
” الديمقراطية هي اتحاد الناس في جماعة واحدة  لها حق مطلق على كل ما في قدرتها ” … ويشدد على أن الحاكم  المطلق لا يلتزم بأي قانون , وعلى الجميع الخضوع له …. يسهب في شرحه : ” إن الحاكم لا يلتزم بأي قانون , ويجب على الجميع طاعته في كل شيء لأنهم قد فوضوا له بموجب عقد صريح وضمني , كل قدرة كانت لديهم  على المحافظة على أنفسهم , أي حقهم الطبيعي كله ” …

اذن خلاصة هذه المرحلة …. حاكم مطلق لا يلتزم بأي قانون …عقد بين الأفراد لتمدنهم بدولة يفوضون بموجبه حاكما مطلقا ليحميهم ويدافع عنهم …تشرف على تطبيق العقد وتنفيذه مجموعة معينة من الناس تسمى ( ديمقراطية ) … الدين لا علاقة له بهذا التنظيم . …

* مرحلة تأسيس دولة مدنية بسلطات مقيدة مع فصل السلطات …

هذه المرحلة هي مرحلة تبلور مفهوم الدولة المدنية المقيدة مع فصل السلطات , وفي هذه المرحلة سنتعرض الى 3 نقاط رئيسة هي بالإجمال :  مواصفات الحكم المدني عند أبرز منظري هذه المرحلة , فكرة فصل السلطات والتداول في السلطة التشريعية , وفكرة سمو سلطة الشعب على جميع السلطات .

نظرية العقد الاجتماعي الذي أطّر له هوبز و سيبونزا في المرحلة السابقة  كان يعتمد على الحاكم المطلق , وأبقى على السلطة المطلقة للحاكم , ولا يحكمه قانون .

ظهر بالمقابل في هذه الفترة ( 1634- 1741 م )  الفيلسوف الانجليزي ( جون لوك ) والذي هو خريج كلية كنيسة المسيح من جامعة اكسفورد , والذي دخل في معارك طاحنة مع اللاهوتيين في الكلية لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في الكلية , الأمر الذي سحب البابا منه بسببه  لقب (الطالب مدى الحياة  ) في الكلية. مما جعله يتجه الى دراسة الطب والفلسفة .

اعتمد (جون لوك ) في تنظيره على أن الإنسان لا يعيش في شريعة الغاب  , والإنسان ليس حالة تسودها الفوضى كما أطّر لذلك ( هوبز ) في نظريته للعقد الاجتماعي , وإنما هو حالة طبيعية يتمتع كل فرد فيها بحريته المطلقة ,  وينظم هذه الحرية قانون مصدره العقل البشري , وليست أي سلطة دينية أو قهرية , أو تسلطية عليه .

كتب  ( جون لوك ) رسالتين بتوقيعه في عام 1660 م , الأولى يهاجم فيها البطريركية، على شكل جمل منفصلة  , لدحض دعاوى (روبرت فيلمر) في كتابه بطريركا , والثانية تؤطر لأفكار لوك عن المجتمع المدني بناءً على الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي . نقتبس منهما ما يلي :

” ولكي ندرك طبيعة الحياة السياسية إدراكا صحيحا , ونستنبطها من مصدرها الأصلي , ينبغي لنا أن نفحص الوضع الطبيعي الذي نجد البشر عليه ,  وهو وضع من الحرية التامة في القيام بأعمالهم والتصرف بأملاكهم , وبذواتهم كما يرتأون , ….. دون أن يحتاجوا إلى إذن من أحد أو يتقيدوا بمشيئة أي انسان ….. حيث تتكافأ السلطة والسيادة كل التكافؤ، فلا يكون حظ أحد منهما أكثر من حظ الآخر ….. فالإنسان في هذا الطور يتمتع بحرية التصر ف بشخصه وممتلكا ته …إلا أنه لا يتمتع بحرية القضاء على حياته … ” .

ويعترف ( جون لوك ) بأن ترك الحرية المطلقة  للإنسان  هي انتحار بحد ذاتها , إذ يغلب على الإنسان حبه للتملك والقصاص  وحب الذات , فلا بد من نظام يحكمه ويحد من هذه النزعات ….ومن هنا حدد في رسالته الثانية , مواصفات الحكم المدني  …

– مواصفات الحكم المدني عند ( جون لوك )  من خلال رسالته الثانية:

حدد (جون لوك ) مواصفات الحكم المدني في رسالته الثانية التي دافع فيها عن الحكم المدني , بأنه  الانتقال من الإنسان بحالته الطبيعية وحريته الطبيعية الى بيئة يسودها قانون يحكمه نابع من عقله البشري لا من سلطة دينية ولا من سلطة قهرية ,  يطبق القانون قضاة عادلين حسب المفهوم العقلي البشري ذاته , تقوم على إنفاذ القانون سلطة قاهرة منظمة من إنتاج العقل البشري , ولا يمكن ذلك إلا من خلال  اتفاق طوعي بين البشر أنفسهم .
وسلطة الحاكم نفسها يجب أن تكون مقيدة بموجب هذا العقد .

يقول في رسالته الثانية التي يدافع فيها عن الحكم المدني  : ”  إني أول من يسلم بأن الحكم المدني هو العلاج الأصيل لآفات الحياة الطبيعية للبشر , …..فكل الذين يؤلفون جماعة واحدة ويعيشون  في ظل قانون ثابت وقضاء عادل يلوذون بهما , ويستطيعان البت في  الخصومات التي تنشأ بينهم ومعاقبة  المجرم منهم , فإنما يعيشون معاً في مجتمع مدني …”

ويضيف بقوله : ” مع أن كل فرد بالتحاقه بالمجتمع المدني  يتنازل عن حقه الخاص بمعاقبة الجرائم التي تعد خرقا للحالة الإنسانية الطبيعية , فهو في تنازله للسلطة التشريعية عن حق النظر في الجرائم … قد خوّل الدولة حق تسخير قوته في تنفيذ أحكامها  كلما دعت إلى ذلك …إذ تلك الأحكام هي أحكامه هو ,  لأنها من وضعه أو وضع ممثليه …”

إذن بالمحصلة …الإنسان هو الذي يضع الأحكام والقوانين , وهو الذي يفوّض ممثليه بوضعها , من إنتاج عقله البشري  , ولا علاقة لأي سلطة دينية بها ….فهو واضع قوانينه … عن طريق سلطة هو يتنازل لها عن حقوقه مقابل ان تصونها …وسلطة تنفذ هذه القوانين بتنازل من الانسان لهذه السلطة .

–  فكرة فصل السلطات في هذه المرحلة :

في هذه الفكرة سيظهر كتاب ( روح القوانين ) لمؤلفه الفرنسي (مونتسكيو )  الارستقراطي , الثائر على سلطة البابا والدين المسيحي بشكل عام ومن بعده جميع الاديان  متقلدا مذهب العقل فقط .

من خلال ما تقدم يتضح أن ( جون لوك )  قسّم المجتمع المدني الى سلطتين في عقده الاجتماعي , سلطة تشريعية تشرع القوانين , وسلطة تنفيذية تنفذ هذه القوانين .

وحتى لا تستأثر السلطة التشريعية التي نصبها الشعب نيابة عنه  بميزات سلطتها , ولضمان حياديتها , يقترح  ( جون لوك )  قيدين عليها : الأول :  الفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية , والثاني هو تغيير منتظم  للسلطة التشريعية بين الفينة والأخرى .

يقول ( لوك ) في رسالته الثانية : ” ولما كانت القوانين التي يقتضي تنفيذها دائما , وينبغي استمرار مفعولها …لم يكن من الضروري أن تبقى الهيئة التشريعية في حيّز الوجود دائما …ولما تقلد الأشخاص الذين يضعون القوانين ذاتهم لسلطة تنفيذية  أيضا , من أشد المغريات التي تتعرض لها النفس البشرية التائقة للسلطة ….والتي تتفلت دائما من القوانين التي وضعتها بنفسها ….انما ان كان الجماعة التي وضعت القوانين , تفرّقت بعد وضعها …أصبحت هي نفسها خاضعة لسلطة هذه القوانين بعد تفرقهم ..سيكون حافزا لانفسهم على وضع قوانين جيدة من أجل الصالح العام …”

الفيلسوف السياسي ( مونتسكيو ) الفرنسي , ومن خلال كتابه ( روح القوانين ) أو كما يسميه البعض ( روح الشرائع ) … أجاد التوضيح معتمدا على نظرية ( جون لوك )  في الفصل بين السلطات ..حيث يقول في كتابه :  ” يوجد في كل دولة ثلاثة أنواع للسلطات  وهي : السلطة التشريعية , وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة لحقوق الأمم , وسلطة  تنفيذ الامور الخاضعة  للحقوق المدنية …وهذه الأخيرة تسمى  سلطة القضاء , وتسمى الأخرى سلطة الدولة التنفيذية ..وكل شيء يضيع اذا مارس الرجل نفسه أو هيئة الأعيان  أو الأشراف أو الشعب نفسه هذه السلطات : سلطة وضع القانون , وسلطة تنفيذ الأوامر العامة ,  وسلطة القضاء في الجرائم أو في خصومات الأفراد …”

– فكرة أن سلطة الشعب أعلى السلطات في الدولة المدنية :

( جون لوك ) فرّق بين سلطة الشعب التي هي جاءت بكل السلطات اللاحقة للدولة المدنية , ومنها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية … فإن السلطة التشريعية يحق لها مراقبة السلطة التنفيذية ويحق لها معاقبتها إن هي خرجت عن القانون الذي وضع للتنفيذ …

فالسلطة التشريعية جاءت من الشعب , وهي مؤتمنه من قبله على التشريع للقوانين , وعلى مراقبة تنفيذها , ويحق للشعب خلع السلطة التشريعية متى أراد.. كما يحق له خلع السلطة التنفيذية أيضا  ..كما أنه يحق له أن ينصب سلطة تشريعية  إن تقاعست السلطة التنفيذية عن الدعوى لتعيين سلطة تشريعية من الشعب …

يقول في رسالته الثانية عن السلطة التشريعية  : ”  هي سلطة ائتمانية  تعمل لأغراض معينة , فالشعب يحتفظ  بسلطة عليا تمكنه من خلع الهيئة التشريعية أو غيرها ” …

إذن بالملخص العام …فإن ( جون لوك ) وغيره من مفكري هذه الفترة … تصدوا بجميع الأشكال لفكرة تسلط الدين على الدولة والأفراد ..وأطلقوا العنان لحرية الفكر العقلي البشري , فهو الأصلح حسب مفهومهم لادارة الدولة وتنظيم العلاقات العامة بين السلطات …ولا علاقة للمباديء الأخلاقية التي يعتنقها الشعب ..في ادارة السلطات الثلاث في الدولة المدنية …. اذا ان هذه الأخلاقيات والأديان متروكة للأفراد لا للدولة ….

لاحقا ان شاء الله تعالى سنتعرض لأفكار ( جان جاك روسو ) في  آخر مرحلة من مراحل الدولة المدنية في الفكر الغربي .. وكيف أنه أدخل مفهوم ( الارادة العامة ) وجعلها أعلى السلطات على الاطلاق , معتمدا على نظرية العقد الاجتماعي …..

نلتقي في الجزء الثاني …ومفهوم الدولة في الفكر الاسلامي … والجزء الذي يليه .. هل يوجد توافق بين الفكريين في مفهوم الدولة المدنية أو أن هناك اختلاف …؟!!!