بقلم إبراهيم السيوف
في عصرٍ يتفتّت فيه القانون الدولي كما تتفتّت المرايا القديمة تحت ضربات المطارق، وفي زمنٍ لم يعد يُعترف فيه إلا بمنطق السلاح والمال، يقف الأردن، هذا الكيان الصغير مساحةً، الكبير دلالةً، ليعلن أنّ البقاء ليس قدراً، بل فعل إرادة، وأن القوة ليست مجرد جيوشٍ أو اقتصاد، بل قدرة على صناعة المعنى، وصياغة القانون، وتثبيت الشرعية في عالمٍ فقد شرعيته.
الأردن، بما يحمله من عمقٍ هاشمي، لم يختَر موقعه الجغرافي الملتهب بين فلسطين والعراق وسوريا والسعودية، لكنه اختار أن يحوّل هذا الموقع من لعنةٍ إلى ورقة قوة. هنا تتجلّى عبقرية الدبلوماسية الأردنية: تحويل الهشاشة إلى صلابة، والضغط إلى نفوذ، والجغرافيا المأزومة إلى منصة سياسية عالمية.
بينما تهدم القوى الكبرى القانون الدولي متى تعارض مع مصالحها، يتعامل الأردن معه كسلاح لا يمكن التفريط به.
فالقرار الأممي ليس ورقة ثانوية، بل قذيفة سياسية تُطلق في اللحظة المناسبة.
اتفاقيات اللاجئين ليست نصوصاً جامدة، بل سياجٌ أخلاقي يحمي هوية الدولة ويمنحها شرعية في المحافل العالمية.
الأردن يقول للعالم: “قد لا أملك جيشاً يُرعب، لكنني أملك قانوناً يُحاصر، وشرعيةً تُربك، ومنظومة قيمية تُلزم حتى الأقوياء بالإنصات.”
ليس حياد الأردن حياد العاجز، بل حياد العاقل الذي يعرف أن الاصطفاف وراء المحاور الكبرى يعني الفناء.
إنه حياد مُسيّس، حياد هجومي: يقترب من الجميع دون أن ينتمي، ويقف على الحافة دون أن يسقط.
هذا التموضع جعل الأردن “صندوق البريد السياسي” للمنطقة، و”وسيط الاضطرار” الذي لا غنى عنه. فالدبلوماسية الأردنية لا تكتفي بالتعليق على الأحداث، بل تُنتج لغة جديدة للتوازن، لغة تجعل وجود الأردن في أي معادلة إقليمية أو دولية ضرورة لا خياراً.
الأردن لم يستضف اللاجئين ليُسجّل أرقاماً في التقارير الأممية، بل ليُمارس هندسة سياسية بالغة الدقة: تحويل العبء إلى ورقة ضغط، وتحويل التضامن الإنساني إلى أداة تفاوضية.
القدس ليست شعاراً عنده، بل عنواناً لدبلوماسية روحية تمتد جذورها في الشرعية الدينية والتاريخية، فتمنحه ما لا تمنحه الجغرافيا: سلطة معنوية تتجاوز حدود القوة التقليدية.
بهذا المعنى، القوة الناعمة الأردنية ليست ترفاً أخلاقياً، بل سلاحاً بارداً يُكمّل ترسانة القانون الدولي.
في نظام عالمي يتصدّع، يقف الأردن بوصفه مختبراً لإعادة تعريف معنى الدولة. ليس دولة كبرى، لكنه يملك ما لا تملكه القوى الكبرى: شرعية نابعة من البقاء في قلب النار دون أن يحترق، ومن القدرة على مخاطبة الشرق بلغة القيم، والغرب بلغة القانون، والجنوب بلغة الإنسانية.
إنه “المُنتِج الأخير للشرعية” في عالمٍ استسلم للفوضى.
الدبلوماسية الأردنية ليست مجرد سياسات خارجية، بل بيان فلسفي للعصر: أن القانون يمكن أن يكون سلاحاً، وأن الأخلاق يمكن أن تتحوّل إلى أداة سياسية، وأن الحياد يمكن أن يُصبح موقع هيمنة ناعمة.
الأردن لا يفاوض على البقاء، لأنه جعل من البقاء فناً سياسياً بحد ذاته. وفي زمنٍ تسقط فيه الدول الكبيرة بأوزانها، يثبت الأردن أن الدول الصغيرة حين تُحسن توظيف أدواتها، تصبح أكبر من مساحتها، وأعمق من جغرافيتها، وأبقى من عواصف محيطها.