بقلم: د. سعيد محمد ابو رحمه
للمرة الأولى في التاريخ الفلسطيني الحديث، تصدر الأمم المتحدة إعلانًا رسميًا يؤكد وقوع مجاعة في قطاع غزة، تصيب قرابة ربع السكان (514 ألف شخص)، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 641 ألف بحلول نهاية سبتمبر. إعلان يحمل دلالات إنسانية وسياسية خطيرة، وينذر بانزلاق الأوضاع نحو نقطة اللاعودة، حيث لم يعد الحديث عن أزمة إنسانية، بل عن كارثة من صنع الإنسان.
ما كشفته خريطة توزيع المجاعة في غزة يعكس سياسة ممنهجة تستهدف المدنيين، لا مجرد تداعيات جانبية للحرب. المناطق الأكثر تضررًا، كمدينة غزة ودير البلح وخان يونس، هي ذاتها المناطق التي تعرضت لأعنف الهجمات، وتواجه الآن الحصار الكامل وتدمير البنية التحتية ومنع المساعدات.
الربط الجغرافي بين المجاعة والمناطق التي صدرت فيها أوامر إخلاء من الجيش الإسرائيلي، يعزز من فرضية استخدام الجوع كأداة ضغط لفرض خيارات سياسية على الفلسطينيين، وعلى المجتمع الدولي.
اعتراف الأمم المتحدة لا يقتصر على الجانب الإنساني، بل يفتح الباب لمحاسبة قانونية محتملة ضد إسرائيل، كون تجويع المدنيين يُعد انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف ويُصنف ضمن جرائم الحرب. كما يشكل ورقة ضغط جديدة أمام محكمة الجنايات الدولية.
في الوقت ذاته، إحراج مباشر للمجتمع الدولي، لا سيما الدول الكبرى التي ما تزال تبرر دعمها العسكري أو السياسي لإسرائيل، بينما ترتكب هذه الأخيرة جرائم ترتقي إلى الإبادة الجماعية البطيئة.
فرغم التحذيرات المبكرة، فإن المجتمع الدولي أخفق في منع الوصول إلى المجاعة. المعابر المغلقة أو محدودة الوصول، وتراجع تمويل الأونروا، والعجز في تنسيق المساعدات، كلها ساهمت في تفاقم الوضع.
كما أن غياب تدخل دولي فاعل لفرض وقف إطلاق نار حقيقي، فتح المجال لمزيد من التدمير والاستهداف المباشر لمخازن الغذاء وشبكات المياه والمراكز الصحية.
إن المجاعة في غزة ليست مجرد مأساة إنسانية، بل تحدٍ للعدالة الدولية، ومؤشر خطير على انهيار منظومة القيم الأممية. فحين يتحول الجوع من حالة طارئة إلى سياسة، وتُستخدم بطون الأطفال كورقة تفاوض، تسقط كل الادعاءات حول النظام الدولي القائم على حقوق الإنسان.
المجاعة في غزة، كما تظهرها الخريطة والبيانات، لم تعد تحتاج إلى تقارير، بل إلى تحرك عاجل وفعلي. المطلوب اليوم ليس فقط إدخال المساعدات، بل كسر الحصار، ومحاسبة من تسبب بهذه الكارثة، قبل أن يتحول قطاع غزة إلى مقبرة جماعية على مرأى العالم.