البكم الأزرق على المدرج الجنوبي

24 يوليو 2025
البكم الأزرق على المدرج الجنوبي

البكم الأزرق على المدرج الجنوبي
بقلم الكاتب/ عبدالهادي راجي المجالي

أول أمس ، شاهدت انفعال الرئيس في جرش وهو يرد ربما على سؤال من أحدهم حول مهرجان جرش ، الرجل كان محتدا ومتحديا …وأظن أنه وجه رسالة للإسلاميين ، حول قضية تطرح وهي : كيف نقيم طقسا للرقص والغناء ، ودماء أطفال غزة تسفك ؟
أنا سأجيب ، نيابة عن الفرح ذاته ، لا نيابة عن الحكومة ولا عن الرئيس ولا عن أحد …
حين نتحدث عن الإسلاميين في مصر ، نقول أن هناك إسلاما سياسيا بالمعنى الحقيقي ، وحين نتحدث عن الإسلاميين في تونس فمن الممكن أن نقول أنهم حاولوا أن يقدموا الجماعة في إطار تنويري ، وحين نتحدث عن حسن الترابي في السودان فعلينا أن نقف مطولا عند طروحات مفكر غرد خارج سياق الحديث ووصل حد النظرية …
لكن حين نتحدث عن الإسلاميين في الأردن ، فعلينا أن نحزن وأن نبكي قليلا وأن نعاتب الدولة في ذات الإطار …وأن نتذكر مقولة لمسن كركي وهي : ( اتمسد لحى واتبطح جوامع) .
الخطاب الإسلامي في الأردن – وخذ جرش نموذجا- هو خطاب خال من المعرفة ، هو عبء على الإسلام ، وعبء على الوعي الوطني …نحن للان لم نستطع في الأردن أن ننتج منظرا إسلاميا بالمعنى الحقيقي ، مصر مثلا حين تقرأ حقبة الهضيبي وصراعه مع سيد قطب ، تكتشف أنه صراع أيدلوجيا ونظريات ..وحين تقرأ كتاب (ثروت الخرباوي – سر المعبد) تكتشف أن الإنقلابات داخل الحركة هي انقلابا ت ايدلوجية فكرية وليست انقلابات جمعيات وقواشين وحصص أراضي ..
خذ تونس مثلا ، خذ راشد الغنوشي الذي أمضى العشر سنوات الأخيرة من حياته وهو يدافع عن (ابن تيمية) ، وتشعر أحيانا أنه وصل إلى مرحلة من الليبرالية الإسلامية التي يصنف فيها بن تيمية بأنه مفكر لم يتناقض في طروحاته مع الدولة المدنية ، للعلم راشد الغنوشي قدم للمكتبة العربية والعالمية (25) مؤلفا كلها ، تصلح لأن تكون مناهج جامعية .
خيرت الشاطر ، أحد عتاة (الإسلاميين) في مصر ، كتب مقالا في الغارديان البريطانية تحت عنوان (لاتخافوا منا) ، شكل بابا لفتح حوار مع كامل أجهزة المخابرات الغربية ، وكأنه كان يمهد لما سيحدث في مصر مستقبلا .
مع ذلك سقطت كل هذه النماذج في العالم العربي لسبب بسيط وهو : راديكالية الحركات الإسلامية حين تصل للسلطة ، والأخطر محاولتها أسلمة المجتمعات ، ففي مصر مثلا تم الانقضاض على مجتمع النخبة ، حاولوا محاكمة عادل إمام ، وحاولوا إلغاء دار الإوبرا ، عدم فهمم لمزاج الشارع ومكوناته ، وانغلاقهم ربما كان سببا في سقوطهم المرير ، ذاك أن السلطة تحولهم من حالة إلى أخرى ملتبسة وغير مفهومة وخطرة في ذات الوقت
لنعد إلى الأردن ، ولنسأل القيادات الإسلامية هنا ، هل شاهدتم راشد الغنوشي في تونس يصف مهرجان قرطاج بأنه مجون وترف ، ويطالب بإلغائه …لنعد إلى مصر لنعد إلى جذر الإخوان سيد قطب ، هل تستطيعون إنكار كتاب الشاطيء المجهول على سيد قطب ، وهو للعلم ديوان شعر..هل تستطيعون أن تنكروا على سيد قطب إصداره لكتاب قصص للأطفال بعنوان : (كتكت المدهش) ..وهل تستطيعون إنكار قصائد الغزل التي كتبها في ديوان الأشواك ؟
الإسلاميون في الأردن إنتاجهم هو: الجمعيات ، القواشين ، التبرعات ، الشركات ، محاربة الربا ، الأناشيد التي تشيد بالجهاد ، استطاعوا عبر جمعية المركز الإسلامي أن يتخطوا حاجز المليار ، لكن أحدا فيهم لم يستطع أن يقدم مؤلفا في الإسلام السياسي ، أو أن يقدم محاضرة في جامعة أوكسفورد يتحدث فيها عن (الإسلاموفوبيا) ..أو على الأقل ، أن يصل لمرحلة منظر للحركة .
وفي النهاية يقفزون للعناوين السخيفة ، جرش فسق ومجون ، وينسون أن مهرجان جرش هو جزء من هوية الدولة ، من ماكنتها الرسمية ، وإن إقامته يعني أن للدولة سلطة على المشهد الثقافي ، وإلا كيف تحسب قوة الدول ، ألا تحسب بتنفيذها للمشاريع ، وتحديها للمخاطر الإقليمية ؟
الإسلام لايعرف منطق التحريض ، ما يحدث في جرش من خطاب هو تحريض وليس نقد ، وهو مس بسيادة الدولة …إن وصف جرش بالفسق والفجور ، وأنه يتناقض مع ما يحدث في غزة ، هو انتهاك صارخ أيضا لسيادة الدولة ، ذاك أنهم يضعون هذه التصريحات في إطار الفتوى ، وهذا أمر لم تنتبه له الدولة ، الفتوى لها مؤسسة خاصة مكونة من مشايخ ، وأساتذة على درجات العالية من الفقه ، ولايجوز لأحد أن يفتي خارج إطار مؤسسة الإفتاء العام ، ومن يصف مهرجان جرش بهذا الوصف ، هو يتعدى المهرجان كمؤسسة رسمية ، إلى الجمهور والأمن ومن يعملون في المهرجان ومن يبيعون ويشترون ، ومن يعملون في اقتصاد المهرجان …
لم تنتبه الدولة عبر حكوماتها المتعاقبة ، إلى كون بيانات الإسلاميين في المسائل الوطنية (فتوى ملزمة للأعضاء ) ،وفتوى ملزمة للمؤازرين ..وهي في ذات الوقت تؤثر على الشارع ، بحكم أن البسطاء والعوام يشكلون الأغلبية ويتأثرون بالخطاب الديني أكثر …كان الأصل أن تتخذ الدولة إجراءا قانونيا مع كل من يصف هذه المؤسسة المهمة – مهرجان جرش- بالفسق والفجور ، وأن تتخذ ذات الإجراء مع كل من يحاول أن يضعنا في صدام مع الدم الفلسطيني ، ويصفنا بالراقصين على الجرح ، لأن هذا الأمر يعتبر مساسا بالقرار وسلطة المؤسسات ، وبالحضور والشخوص والجغرافيا .
أعود إلى ما بدأت ، في مصر حين كان ثروت الخرباوي ، يعري الهياكل التنظيمية عبر ( الكتاب) الأشهر في نقد التنظيم وتعريته ، كان الإسلاميون في الأردن ..يفكرون في كيفية إيصال الأسلاك (للبكم الأزرق) وكيف يزجونه في المسيرات .
وفي الوقت الذي كان فيه راشد الغنوشي ، يحاول تقديم الحركة الإسلامية في تونس بالصورة التي ترضي الغرب ، كان الإسلاميون في الأردن يوزعون (حجاب المرأة المسلمة) مجانا في الحملات الإنتخابية ، في الوقت الذي كان يتطارح فيه جورج طرابيشي مع محمد عابد الجابري حول أزمة الموروث في عالمنا العربي ، كان الإسلاميون في الأردن يتشاورون حول أيهم أجدى أن نقدم في موائد الرحمن الكبسة أم المقلوبة ، واتفقوا في النهاية على وفرة الأرز والدجاج ..
حتى لا أظلمهم فقد قرأت كتاب الشيخ حمزة منصور : ( رحلتي في الإخوان ) ومؤلفا اخرا عن الوضوء حسب ما اعتقد …
والمشكلة أنهم حين يقابلونني يقولون لي : (الله يهديك يا أخ عبد) …وكأنني من الفئة الباغية … على كل حال ، صرت أشعر بأن أيمن سماوي لو عرض عليهم فعالية للبكم الأزرق في المدرج الجنوبي لغيروا رأيهم في جرش .