بقلم: عمار البوايزه
قبلَ ما يقرب من 1400 عام ، حينما كان هجيرُ الطغيان وسعيرُ الكفر يلفَحُ بلاد الجزيرة العربية وما حولها ، ورذاذَ الحاكمية القبلية يُغرقُ أهلها وسكانها ، وزعامة الاستبداد والعبودية تبسطُ يدها بشراسةٍ وعنجهيةٍ ؛ تلكَ الأذرعُ التي استشاطت غيظَ سادةِ قريشٍ ونقمتهم وازدرائهم وعدائيتهم ، حينما طلَّ الهادي محمد صلى الله عليه وسلم بوحي ربّه ، ليكن الضِّياء الذي ينفضُ عن أكتافِ الدُّنيا بأسرها العبثية والتخبط والتّخلف ، ويخلع عنها رداء الكفر والطغيان والانقياد لغير الله.
لقد كانت إطلالة نبي الأمة وخير البرايا فجراً جديداً ، يؤذن بقيام الدولة الاسلامية ، التي جاهد نبينا الكريم لأجلها مع خيرة أصحابه بالمال والنفس والولدِ ، وتحمل ثقل العناء ومرارة الإيذاء والطعن في نفسه وأهل بيته وسلوكه ، وما كان منه إلا الصَّبرَ منطلقاً من تلك الكلمات التي خاطب بها صاحبه سيدنا أبي بكر الصديق في الغار “لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” ، والتي انسابت على شفتيه الشريفتين بكل ثقة بربه وعزمٍ ومضاء وتوكّل عميق في ذاته بسمو وعلو الرسالة “رسالة الاسلام”.
ليسَ من الغرابة في مكانٍ ، أن تذرفَ عيوننا الحُبَّ ، وهي تُسطِّرُ ما تيسّر لها من قولٍ في ميلادِ أعظم رجلٍ عرفه التاريخ منذ بدء الخليقة ، بشهادة ربّ العزة في قرآنه المجيد ، وشهادة مفكري الأمة والتاريخ المعاصر وعلمائه ؛ وليسَ عجباً أن نتلذّذ ونتجلى في نسائم سيرته الطيبة ، التي ما كانت للبشرية جمعاء إلا المحجّة البيضاء والطريق القويم ، الذي لا يزيغُ عنها إلا هالك ولا يتنكّبُ الانحراف عنها إلا ضال ؛ تلك السيرة العطرة التي أكملت بناء أسس الحياة وأعمدتها الراسخة ، والتي كان منهلها العذبُ ومرجعها الحق هو القرآن العظيم ؛ ولعلنا لو أردنا المرور على المحطات البرّاقة كلها في حياة رسولنا الكريم محمد ، لنفدَ البحر من مائه ، ورُجَّت الأرضُ والجبال ، ونحنُ لا نزالُ نتكلم ؛ ذلك أن محمداَ صلى الله عليه وسلم مدرسة جامعة شاملة لكل ما هو حسنٌ وجميل ، في قوله وفعله وسلوكه وايماءته وابتسامته ؛ ولربّما يلخص لنا الله جلّ شأنه ذلك كله في آيتين كريمتين: “وَإنَّكَ لَعَلَىْ خُلُقٍ عَظِيْمْ” ، “وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنْ”.
يلفّنا الحزنُ ، ونحنُ ندير عقارب الساعة إلى الوراء ، لنقفَ على ثغور الحق ومواطن العزّة والهدى ، التي بسطها عليه الصلاة والسلام في كل أرضٍ وطأتها قدماه الشريفتان على امتداد العالم المترامي الأطراف ، أو علمَ عنها ؛ فسرى حيثُ سرى في كل بقاع الكون بعنفوانٍ وإصرارٍ غرسهما فيه ربّ الأربابُ ، ولبّى أصحابه الكرام النداء ، فكانوا خير من بلَّغوا وجاهدوا وكابدوا حتى الهلاك ؛ كل هذا لا لمكسبٍ دنيوي ولا شهرةٍ وجاهٍ زائل ولا سيادة ؛ إنما فقط لتبقى كلمة الله هي العليا ، وليجعلوا الاسلام الذي أوكل نشره إلى نبينا العظيم يعم كل نواحي الدنيا ، وتسود نظمه في كل أصقاع المعمورة آنذاك ؛ وما يخيِّم على قلوبنا من أسىً ووجعٍ ، ونحن نستمطرُ هذه التجليات والعبر في حياته عليه أفضل الصلاة والسلام ، ليسَ إلا لأننا قومٌ نأسى ولا نتأسّى – إلا من رحم ربي – .
لا بأسَ أنّ الغالبية العظمى ممن يدينون بالإسلام ، والذين يصل عددهم إلى 1.8 مليار مسلم من أصل 7.75 مليار ، وفقاً لإحصائياتٍ عالمية ودولية حديثة ، يحملون في صدورهم ووجدانهم وأنفسهم من الحُبِّ والمودة للمصطفى البشير محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما تتفتَّق له الجبال ، وتجري به الأنهار ؛ منطلقين من فطرةٍ إيمانيةٍ بحتة تربّوا ونشأوا عليها ، وازدادوا بها يقيناً وتسليماً من توقفهم مع شواهد ربِّ العزة الجمَّة ، التي ساقها وجمّلها في قرآنه الحكيم ، والتي كانت ولا تزال وستبقى الشهادة الحقيقية على صدق النبوة ؛ كما أكدت عليها – بما لا يقبل الشك والتأويل – سيرته الطيبة ، التي وثَّقها صحابته الأجلاء وأتباعه ، فكانت استكمالاً لجسرٍ قوي ، جعلَ من الاسلام نهراً عذباً فُراتاً ، لا يظمأ منه شاربٌ.
لم يكن يوم المولدَ النبوي يوماً عادياً يشهده الزمان فقط ، ولا لحظات جاءت لتعيد دورة السنين واطياف عبيرها ونسائمها ، وألق عظمتها وزهوها في كل عام ؛ إنما كان الحدث الأهم والفاصل الأكبر في تاريخ الخليقة ، والسِّراج المنير الذي ينقلُ الإنسانية – على اطلاق معناها – من زمنِ الحيرة والشتات والتَّفلت ، إلى زمن النور والرشاد والسداد ما بقيت الأرض والسماء ؛ إنما وجب أن يكون مولده صلوات الله وسلامه عليه في كل لحظةٍ من حياتنا ومعاشنا ، ما دمنا نستشعرُ هديه وسنته ، ونقطفُ ثمار نبوته ورسالته ، ونتفيأ ظلال أخلاقه ورحماته وحكمته وفوحِ مآثره الكريمة في كل لحظةٍ وحين ، ليبقى زماننا في كلِّ أحواله متبسماً وضّاءا.
سخّر الله جلّ في علاه كل الأسباب التي تجعلُ من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الرحمة المهداة لشعوب الأرض كافة ، والقدوة العظيمة الحسنة لبني البشر ، وهيأ له من لدنه سلطان الحق الذي يعينه ويؤازره في جهاده وكفاحه المستميت لأجل الإسلام والمسلمين ، ليصدق فيه قوله عزَّ وجل: “وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ” ؛ فصدقَ وعد الله فيه ، وكان الصَّادق الأمين ، رفيع القدر والمقام ، والقائد الشجاع الذي ما عرفَ الزَّمانُ مثلاً يحتذى في براعته كمثله.
ولعلّ الأنظار لا تتجه اليوم لأنْ يكون هذا اليوم لمجرد تلمس الأحاسيس والمشاعر ، وتغذية النفوس والأرواح بما تحمل من عظيم مودةٍ وعلو مكانة لنبينا محمد ، ثم لا تلبثُ أن تتناقصُ أو تذروها رياحُ الأيام ؛ ولا أن يأخذنا التنظيرُ والتصوير ، والإنشاد ومحافل الغناء ، لتكن انعكاساً لما يختلج في نفوسنا في هذا اليوم المشهود ؛ التي رغم ما تحقق من تغذية وجدانية تحلو بها الروح وتتأنّق السَّماء ، إلا أنها تبقى عاجزة عن بلوغ الغاية المرتجاة من هذه الذّكرى ، والتي تتمثل في استشعار حياة النبي القدوة في وتمثّلها في كل شأن من شؤون حياتنا ، وفي كل حين من أحايينها ، بحيث يبقى خلق النبي الانسان وسنته نهجنا السَّوي الذي لا نحيد عنه ، وسبيلنا الأبلج نحو نهضة الأمة ونصرها ونصرتها ، وعزّها وعزّتها.
عودٌ على بدء ، فإنَّ لجوء سيدنا محمد إلى ربّه بقوله: “لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا” ، لم يأتِ مصادفةً أو نوعاً من الحُلم ، بقدر ما كان إيماناً راسخاً منه صلى الله عليه وسلم بأنّه وصاحبه في حمى ربِّ العرشِ ، وتحت ولايته ورعايته ، لا يظفرُ به عدو ، ولا تصيبه فتنة ، ولا يبلغُ منه شديد ولا عتيد ؛ ومن كان في حمى الله ؛ فإنّ الله يحرفُ عنه بوصلة السوء والإيذاء مادياً كان أم معنوياً ؛ فكيف برسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين ؛ وإنَّ ما تحمله لفظة المعيّة في الآية – ولست عالماً أو فقيهاً – لا تؤكد إلا على ملازمة حماية الله له ، وإبعاد الحزن عن سريرته في الدنيا والآخرة.
تأتي قدسية هذا اليوم وأهميته في تاريخ المسلمين من عظم المكانة وعلو الشأن ، التي خصّ بها الله محمداً عليه السلام ؛ وتتآلفُ مشاعر المودة بين الخلق لتتحد على حبِّ هذا النبي العظيم ، والذي جعله الله شفيعَ أمته عنده ، وتلك درجة عليا ما اختصّ بها نبي قبله.
إنّ ما يوجِّه إليه صلى الله عليه وسلم من حملات التشويه والتطاول بالعبارات أو الرسومات ، بدعوى الحرية القذرة ، لم يزده في نفوس أتباعه المسلمين ، إلا نزاهةً وعلواً وسمو قدر ، وارتباطاً وثيقاً به ؛ هذه الحملات التي ما أرادت إلا دسّ الفتنة ، والتأليب والتحريض على الاسلام ، من خلال اعتقادها بأن المساس برمزية الدين الاسلامي ورمز الاسلام والمسلمين محمد صلى الله عليه وسلم ، سيقلبُ الكفَّة لصالحهم ولخدمة عدائهم اللدود لأهل الاسلام ؛ لكن الله غالبٌ على أمره إذ يقول: “وَيَمْكُرُوْنَ وَيَمْكُرُ الله” ؛ وعلاوةً على هذا كله ، فلا تجد أحداً في قلبه ذرةً من إيمان ، أو ممن ينضوون تحت راية الاسلام ، ملتزماً كان أم غير ملتزم ، عابداً أم غير عابد ، ومن شتى الملل والنحل والمذاهب والأطياف ، يرضى أن يُمسَّ نبي الأمة بكلمة سوء ؛ وهذا وحده فقط يثير الغيظ في قلوب المتآمرين على الدين.
فلتعلم هذه الحثالة المغرضة التي تكيدُ وتمكر لهذا الدين وهذا النبي أنَّ المسلمين على قلبٍ محبٍّ في جانب حب رسولهم ، وعلى يدٍ واحدة في جانب الدفاع عنه ، وأنَّهم سيبقوا عاجزين تماماً عن النّيل منه ، وأنَّ التمدد الديني للإسلام في تسارعٍ وتزايدٍ مستمر خلال الأيام القادمة كما تشير العديد من احصائيات العالم السكانية.
أ. عمار البوايزة