بقلم:د. مصطفى التل
– مقدمات عامة للسلسلة ….
شهد العالم الحديث كثيرا من الأنظمة الاقتصادية الرئيسة وما تفرع عنها من أنظمة فرعية , ولكن بالعموم يمكن إرجاع الأنظمة الاقتصادية العالمية الحديثة إلى ثلاثة أنظمة :
– النظام الرأسمالي :
سميت بهذا الاسم لأن الفرد الطبيعي يسمح له بامتلاك ما يشاء من وسائل الإنتاج ورأس المال , و تشجع الرأسمالية حرية العمل التجاري والاقتصاد الحر, لأنها تسمح للناس بأن يباشروا أنشطتهم الاقتصادية بصورة مباشرة ومتحررة إلى حد كبير من التدخل والتحكم الحكوميين.
ويعتبر الاقتصادي الاسكتلندي ( آدم سميث ) أبو المدرسة الرأسمالية , المؤسس لنظريته في القرن الثامن عشر , والمعروفة بعبارة “دعهُ يعمل” (عدم التدخل)
– النظام الاشتراكي :
وهو النظام الذي أسسته الشيوعية متمثلة بالاتحاد السوفيتي المنهار , وتتركز فلسفة النظام الاشتراكي بأن الدولة تتملك كل الموارد المنتجة تقريبًا، وعلى هيمنة الحكومة على كل الأنشطة الاقتصادية المهمة، ويتخذ مخططو الحكومة كل القرارات المتعلقة بالإنتاج وتسعير المنتج وتوزيعه.
– النظام الاقتصادي المشترك بين النظامين ويسمى بالغالب بالنظام الديمقراطي الاشتراكي: ويسمى أيضًا بالأنظمة الاقتصادية الموجهة، وتشتمل هذه الأنظمة على المزيد من التحكم والتخطيط الحكوميين بالمقارنة مع الأنظمة الرأسمالية، ففي الاقتصاد المختلط، غالبًا ما تمتلك الحكومة صناعات مهمة، مثل النقل والكهرباء والغاز والمياه وتسيرها، أما أغلب الصناعات المتبقية فيمكن أن تكون ذات ملكية خاصة.
حامت جميع تطبيقات الاقتصاد في عالمنا الإسلامي الحديث ومنه بطبيعة الحال العالم العربي بين نظريات وتطبيقات بين هذه الأنواع , مما حدا ببعض الدول بالخروج بنظام مختلط بين الأنواع الثلاثة وهو أشبه بالجمع بين تناقضات ثلاثة .
وترددت مصطلحات اقتصادية فنية كثيرة جدا , يستخدمها الاقتصاديون في عالمنا العربي والإسلامي , كدلالة على أنهم متخصصون بالاقتصاد , ولديهم رؤية مستقبلية ومفصلية لإخراج دولهم ومنطقتهم من التردي الاقتصادي الذي وصل إلى عدم توفير أساسيات الحياة الاقتصادية في كثير من الأحيان .
ومن هذه المصطلحات ( الكفاءة الاقتصادية, الفاعلية الاقتصادية , الفاعلية التشغيلية ) .
ومحاولة إيجاد وشرح العلاقة بينها, بمنظومة فكرية اقتصادية غربية أو شرقية , وبناء برامج اقتصادية مبنية عليها , في محاولة منهم لتطبيقها على أرض الواقع في عالمنا الإسلامي والعربي تحديدا , ونظريا تجدهم يسرفون في التفاؤل , لا بل يصورون الأمر وكأن الفردوس بانتظار المواطن المسحوق في عالمنا العربي , الذي هو جزء مصغر للحالة العامة من العالم الإسلامي ككل .
فالكفاءة الاقتصادية بشكل مبسط جدا هي : استخدام الموارد بأفضل طريقة ممكنة لتقليل الهدر أكبر قدر ممكن , وتلبية رغبات المؤسسات والأفراد , حيث أن جوهرها هو ( الندرة الاقتصادية ) أي انه لا يوجد موارد كافية لتلبية حاجات القطاعات الاقتصادية المختلفة طوال الوقت , وعليه يجب أن تستغل الموارد الاقتصادية النادرة بطريقة مثالية لتلبية جميع قطاعات الاقتصاد .
أما الفاعلية التشغيلية : فهي قدرة الشركات في مختلف القطاعات على توظيف جميع الجهود المتوفرة لديها , مقرونة بتوظيف التكنولوجيا والتقنيات المختلفة لتحسين إنتاجها .
و علم الاقتصاد بشكل عام ينقسم إلى نوعين من حيث ميدان الدراسة والاهتمام :
– الاقتصاد الكلي : ويختص بدراسة الظواهر الاقتصادية الكلية كالناتج القومي والدخل القومي والاستثمار والادخار والطلب الكلي والعرض الكلي..
– الاقتصاد الجزئي : ويختص بدراسة الظواهر الاقتصادية الجزئية، مثل دراسة سلوك الوحدات الاقتصادية الفردية، كسلوك المستهلك وسلوك المنتج، ونظرية الثمن، وسعر السلعة..
وفي كلا الاقتصاديين , يتم استخدام (الاقتصاد القياسي) الذي يُعنَى باستخدام التحليل الرياضي والإحصائي , وبعض الجوانب العلمية في التحليل العام .
وبالنظر العميق لجميع الأنظمة الاقتصادية الثلاثة , نجد أن جوهر النزاع , هو النزاع المستميت بين ( الملكية الخاصة ) و ( الملكية العامة ) , ومدى تداخل ملكية الدولة ذاتها بين الفردي والعام , وهل هي ضد الملكية الفردية للإنتاج والاقتصاد أم هي ملكية عامة للإنتاج والاقتصاد , وملكية الدولة ذاتها للاقتصاد والإنتاج , هل موجهة لأحد الأطراف ضد الآخر ..؟!
وسط هذا النزاع المستميت المهلك لكلا النظامين الفردي والعام , انهار الاقتصاد الاشتراكي والذي هو كان يؤسس للملكية العامة في جميع نواحي الاقتصاد , وقضى على الملكية الفردية.
بينما النظام الرأسمالي والذي هو مؤسس للملكية الفردية للإنتاج والاقتصاد , بقي قائما مؤسسا مدرسة حديثة لفك الاشتباك بين الملكية العامة والفردية في الاقتصاد , واستقر أمره إلى النظام الليبرالي الذي جوهره : سحب الدولة نفسها من أي توجهات اقتصادية داخل السوق , واقتصار دورها الفعلي على الحماية والتعليم والدفاع وتنظيم الوسط الصحي كخدمات فقط , وترك السوق ينظم نفسه بنفسه . حسب مبدأ الأقوى , ومبدأ التنافسية الحادة الطبيعية , والتي ستفرز حسب هذه المدرسة الأفضل والأقوى والأقدر على إدارة السوق بشكل عام .
بعد هذه المقدمة اللازمة لحلحلة بعض المصطلحات , وتوضيح الرؤية العامة وبشكل بسيط جدا لكل نظام من الأنظمة الاقتصادية , ندلف الى موضوعنا في هذه السلسلة .
– الاقتصاد الإسلامي المغيّب :
بعيدا عن البعد التنظيري للبعض , وبعيدا عن الصراع الشكلي عند البعض الآخر من أصحاب مدرسة أن ( الاقتصاد الإسلامي لم يُختبر بعد . لغياب النموذج الفعلي ) , فإن الاقتصاد الإسلامي تم تطبيقه على مدى زاد عن 1400 عام في ظروف مختلفة , من الإمبراطوريات العظمى , إلى إمارات صغرى , في ظروف الحروب الطاحنة , إلى ظروف الازدهار الفاحش , ولم يُغيّب عن هذا العالم إلا منذ 100 عام تقريبا , وهذه فترة بسيطة جدا مقارنة بالتاريخ العام .
بينما جميع النظم الاقتصادية بشقيها الغربي والشرقي , لم تطبق فعليا , إلا من 70 عاما فقط , وخلال السبعين عاما , منها ما هو انهار , ومنها ما هو يترنح تحت ضغوط أزمات عالمية متتالية , ومنها ما هو يتحوّر ويتبدل باستمرار بأثواب جديدة , ليتأقلم مع الواقع الجديد لكل أزمة عالمية تصيب العالم , نتيجة قصور هذه الأنظمة عن النظرة الشمولية والإحاطة الشمولية لاقتصاديات العالم المتقلبة نتيجة تقلب الظروف الدولية , وديمومة الحركة العالمية .
– اضاءات على هذه السلسلة :
النظام الاقتصادي الإسلامي لا يمكن تطبيقه ولا تحقيقه , إلا من خلال استقرار سياسي عام , وامتلاك قوى سياسية وارادة صارمة نحو الاستقلال السياسي من أي تبعية خارجية , سواء بالمنظومة العامة , أو تطبيق المنظومات الخاصة داخل الدولة .
والاقتصاد الإسلامي يقوم على قاعدة ( لا يمكن لأي دولة في العالم أن تكفي نفسها بنفسها ) , بل لا بد من التفاعل العام بين دول العالم ومنظوماته الاقتصادية والإنتاجية , للوصول للكفاية العامة داخل أي دولة , مهما بلغت قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية , ولا وجود في هذا الاقتصاد لدول منغلقة على نفسها .
وبالعموم , الاقتصاد الإسلامي يقوم كركيزة رافعة , على مبدأ سيادة القانون , فلا مكان لاقتصاد في ظل انعدام القانون , بل لا بد من ضبطه , وضبط كل تفاعلاته العامة الخارجية والداخلية , وفي الاقتصاد الإسلامي القانون هو ( الشريعة الإسلامية ) , والبعض يتحسس من مصطلح الشريعة الإسلامية , لأنه يعتقد أن شريعة الإسلام هي مجرد شعائر فردية من صلاة وصيام . وانتهى الأمر .
على العموم , كانت الدولة الإسلامية ووظيفتها في ترسيخ الاقتصاد الاسلامي كتأسيس على المستوى التشريعي والتنفيذي يتمثل فيما يلي :
أ – عدالة مؤسسة القضاء وسرعة البت في القضايا المختلفة :
القضاء الإسلامي فرض سيطرته على جميع مواطني الدولة الإسلامية بمختلف مناصبهم ورتبهم , وعلى جميع مؤسسات الدولة المختلفة العامة والخاصة بالصفة الاعتبارية, وانتقل القضاء الإسلامي إلى القضاء المتخصص منذ بواكير نشأة الدولة الإسلامية , فكان هناك :
– قضاء المظالم : وهو القضاء المتخصص في النزاع بين الدولة ومؤسساتها وموظفيها بصفاتهم الوظيفية وبين المواطنين .
– قضاء الاقتصاد : وهو القضاء المتخصص في النظر في القضايا الاقتصادية الناشئة , مثل قضاء الخراج , وهو ما يشبه المحاكم المختصة بالنظر في القضايا الضريبية الحديثة .
– قضاء الحقوق والقانون المدني .
– القضاء الجزائي والحدود .
– قضاء المواريث .
– قضاء الزواج والطلاق
- قضاء الحضانة
– قضاء الولايات الشرعية والقصّر .
– القضاء العسكري وهو القضاء الجهادي للفصل في الجيش والشرطة وما يلتحق بهما من نزاعات ناشئة .
هذا ولم يخضع القضاء في يوم من الأيام , على مدار التاريخ الإسلامي , للسلطة السياسية , بل هو قضاء نزيه عادل , ولا سلطة فعلية عليه إلا القانون وسيادته متمثلا بالشريعة الإسلامية .
وحتى نخرج من جدلية أن الخلافة الراشدة هي فقط التي مثلّت القضاء نزاهة وعدالة , سنرى نموذجا من الخلافة العباسية ومدى استقلال القضاء فيها , والخلافة العباسية بعيدة نسبيا عن الخلافة الراشدة زمنا طويلا .
أشار المستشرق السويسري ( آدم ميتز ) في كتابه ( الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ) إلى مدى تطبيق سيادة القانون على الخليفة نفسه وهو المأمون , وهنا ذكرت المستشرق ومرجعه حتى لا أتهم بأنني متحيّز للمراجع الإسلامية المتخصصة والموثقة وهي كثر ولله الحمد , ولكن لأكون على نقطة واحدة من مختلف المدارس الفكرية بخصوص القضاء الإسلامي ونزاهته …
ذكر هذا المستشرق مثال على سيادة القانون على الخليفة نفسه , إذ ادعى رجل من عامة المواطنين على الخليفة أنه مدين له بثلاثين ألف دينار , فرفع قضيته للمحكمة المختصة , وكان القاضي هو ( يحي بن أكثم ) , وجرى الضبط القضائي حسب الأصول المتعارف عليها آنذاك , وتم تبليغ الخليفة باسمه المجرد من أي ألقاب رسمية بالدعوى , وطلب القضاء حضور الخليفة المأمون نفسه إلى المحكمة والمثول بين يدي القاضي .
فما كان من الخليفة إلا أن حضر بنفسه إلى المحكمة , وجلس بين يدي القاضي , ومع خصمه , وكان قد أعطي الخليفة ( مصلوه ) للجلوس عليها , فأمر القاضي بسحبها من تحته ونهر الخليفة , أن تساوى مع خصمك في مجلس القضاء .
المأمون لا يملك حجة لرد دعوى الخصم , والخصم لا يملك حجة بدعوته , فلم يبقى إلا حلف اليمين الحاسمة , فدفع الخليفة للمواطن 30 الف دينار قبل اليمين الحاسمة , وقال عبارته : (لولا خوفي من العامة أن تقول أنني أخذتك على قدرة )…بمعنى أن الخليفة خاف من الرأي العام في الدولة , وهنا يتجلى لنا مدى ثأثير الرأي العام على الدولة ككل , ومدة اهتمام الأنظمة القائمة آنذاك بالرأي العام .
ب- ضبط الأسواق بمختلف أصنافها مالية أو عقارية أو تبادلية أو غيره , من خلال مؤسسات فاعلة , لها قدرة على التصرف الفوري , ولها القدرة على التفهم العام لما يحتاجه السوق من علم وخبرة ميدانية من خلال نظام قانوني وتشريعات ناظمة مرنة , وكان يطلق عليه اسم ( الحسبة ) ., وأشبه ما يكون اليوم بنظام مراقبة تطبيق الجودة ومنع الاحتكار , وعدالة المنافسة .
وهذا النظام الإسلامي تفرع إلى اختصاصات متعددة وكثيرة , كلها تنتظم بنظام القانون المرن العادل .
وتم تشريع نظام ( التحكيم التجاري ) , و( نظام الوساطة التجارية ) في المنازعات القائمة , و ( نظام منع الاحتكار ) , و( نظام عدالة المنافسة ) , و ( نظام الجودة ) من خلال معايير السلع والخدمات المقدمة لمعايير الجودة العامة في ذلك العصر , و مراقبة الأوزان ومنع الغش , وتسهيل السيولة التجارية والتبادل التجاري , ومراقبة الأسواق بشكل عام وما يدار فيها من خدمات وسلع وإنتاج , والوقوف على العوائق وتذليلها , أو رفع العائق إلى الجهات المختصة لاتخاذ القرار المناسب فيه . باختصار كان تجسيدا لمبدأ ( المراقبة النوعية ) التي يتغنى بها اقتصاديو هذا الزمن .
والغريب في الأمر أن نظام الحسبة وموظفيه على مختلف اختصاصهم كان لهم صفة ( الضابطة العدلية ) كما هو متعارف عليه اليوم .
ويدخل في اختصاصهم النقود المقلدة , وتعقبها , والتحقيق فيها , ومنع تداولها , ضبطا للاقتصاد العام .
ج – الاستثمار في البنى التحتية التي تمثل الأساس القوي الثابت الذي يُمكّن الجميع من العمل بثقة :
أدرك الاقتصاد الإسلامي منذ نشأته أن البنية التحتية في الاقتصاد هو بوابة العبور إلى عالم التنمية الاقتصادية المستدامة، والبنية التحتية هي القادرة على التحليق بالدولة والمجتمع معا إلى آفاق النمو الاقتصادي المرتفع، بما يحدثه من تغيرات جذرية في هيكل الدولة وبنية المجتمع ونقلهما أعواما وعقودا إلى الأمام.
والاقتصاد الإسلاميتميّز منذ نشأته في تحديد موارد البنية التحتية للدولة , بشكل عام تكون البنية التحتية ذات النفع العام على بيت مال المسلمين , وبالمصطلحات الحديثة من موازنة الدولة نفسها .
وان تعدت المصالح إلى المصالح الخاصة فإنه يتحمل القطاع الخاص والأفراد تكلفة إنشاء هذه البنى التحتية إن كانت نفقاتها معقولة , وبمقدرة القطاع الخاص تحملها , أما إن كانت فوق القدرة لضخامة المبالغ أو كبر المشاريع , فإنه ينظر إلى قدرة المواطن أو القطاع الخاص , ويتم تحديد الكلفة على الدولة والمواطن أو القطاع الخاص ,نجد هذا في كتاب ( الخراج ) لأبي يوسف بقوله :
(وإذا احتاج أهل السواد إلى كرى أنـهارهم العظام التي تأخذها من دجلة والفرات كريت لهم وكانت النفقة من بيت المال ومن أهل الخراج ولا يحمل ذلك كله على أهل الخراج. وأما الأنـهار التي يجرونـها إلى أرضهم ومزارعهم وكرومهم ورطابـهم وبساتينهم ومباقلهم وما أشبه ذلك فكريـها عليهم خاصة ليس على بيت المال من ذلك شيء، فأما البثوق والمسنيات والبريدات[i] التي تكون في دجلة والفرات وغيرهما من الأنـهار العظام فإن النفقة على هذا كله من بيت المال لا يحمل على أهل الخراج من ذلك شيء لأن مصلحة هذا على الإمام خاصة لأنه أمر عام لجميع المسلمين…)
مع ملاحظة عبارات ( البثوق , المسنيات , البريدات ) .. وهي باختصار الأراضي العميقة ذات مستوى منخفض عن الأراضي المساوية لها , فتتحمل الدولة إيصال المياه لها للري وغيره , وتتحمل كلفة شق الطرق فيها لسهولة النقل والتنقل لمصادر الانتاج, لضخامة المشروع وكلفته العالية .
والبنى التحتية حسب الاقتصاد الإسلامي لا تأتي اعتباطاً , أو بموقف مؤقت , بل هو تخطيط عابر للأشخاص , بموجب أنظمة وتشريعات مرنة , لا تقف على شخص أو أي منظومة حكومية مهما كانت .
فمن أولى خطوات تأسيس بنى تحتية فعالة في الاقتصاد الإسلامي هو ( الإحصاء ) وعلمه وتطبيقه , ووضع النتائج موضع التفعيل , وككوامن فاعلة في أي مخطط لأي بني تحتية مخطط لإنشائها .
من هنا اهتمت الدول الإسلامية على مختلف عصورها بالإحصاء الدقيق , ونتائج هذا الإحصاء , ولا نستغرب ذلك , إذ من المسلمات الذهنية عند أبناء عصرنا أن الإحصاء هو علم غربي نشأ مع نشوء الاقتصاد ونظرياته الغربية , هكذا عُلمنا في مدارسنا .
نضرب مثالا على العملية الإحصائية في العصور الإسلامية تمهيدا للنهضة العلمية فيها , وأيضا من خلال الحقبة العباسية .
في عام 210 هجري , أراد الخليفة العباسي ومن خلال نظام الشورى , أن يرى مقدار كفاية موارد الدولة لتأمين طلبة العلم في مختلف تخصصاتهم , وتأمين شيوخهم ( أي المدرسين لهم وعلمائهم ) , وكفايتهم من موارد الدولة حتى يتفرغوا لعلمهم وما هم فيه , فكان الأمر أن توقف على مقدار مدارس العلم في الدولة , ومقدار طلبة العلم , ودخلهم , وحالتهم الاجتماعية والاقتصادية والفئات العمرية , وتواجدهم , وأماكن إقامتهم .
فجرى التعداد العام ( الإحصاء العام ) للبصرة كمقدمة لإحصاء عام على مستوى الدولة , وكانت نتائج هذا الإحصاء هو :
700 عالم ومدرس , و11 ألف طالب علم موزعين على مدرسيهم وعلمائهم في البصرة في اماكن مختلفة تم تحديدها , على أن الأغلب يجتمع بحلقات علم متعددة التخصصات الشرعية والعلوم التطبيقية في جامع المنصور .
النتائج العامة للإحصاء كخطط فاعلة :
إعداد منظومة اقتصادية متكاملة , لرعاية هؤلاء العلماء وطلبتهم , من موارد الدولة , و وضع طلبهم للعلم على أعلى سلم الأولويات العامة , فكانت حركة البناء حافلة بالمدارس , أماكن الإقامة , وأماكن تلقي العلوم المختلفة , والتخطيط لدعمهم في إقامتهم من مأكل وملبس وعلاج وخدمات فندقية ونفقات طلبهم للعلم حتى التخرج .
د- تحديد الميزة النوعية الجغرافية والموقع لكل منطقة مراد استهدافها بالتنمية:
الاقتصاد الإسلامي فعّل الميزات الجغرافية في التنمية الاقتصادية , واستغلها أفضل ما يكون استغلالا , وأدخلها ضمن المنظومة الاقتصادية الدافعة للازدهار الاقتصادي .
فعلى سبيل المثال , كانت بلاد الشام والعراق ومصر مميزة بخصوبة أراضيها , ومميزة بثروتها الحيوانية , فكانت التنمية الموجهة لها هي التنمية الزراعية والحيوانية , اذ تكثر فيها الموارد المائية , وتكثر فيها الأنهار والمجاري النهرية المساعدة على النقل والري .
فسموا العراق ( السواد ) لكثرة الخضرة فيه .
فساهمت الدولة باستغلال الموقع الجغرافي لكل منطقة وتطويرها من الموازنة العامة كبنية تحتية . فاتجهت إلى العلم التطبيقي ووظفته في تحسين الاقتصاد , من خلال استغلال العلم التطبيقي ودمجه مع ميزة الموقع الجغرافي .
فأنشأت الدول الإسلامية أنظمة الري , وارتقت بها , وأنشأت أنظمة نقل المياه وارتقت بها , وشقت الطرق وارتقت بها , لا بل جعلت العلوم التطبيقية مدمجة مع الميزة الجغرافية لكل منطقة هي الرافعة للاقتصاد في تلك المنطقة .
وحتى اختيار مواقع المدن الكبيرة لم يكن دون دراسة، بل روعي فيها مميزات أسهمت في تعزيز التبادل التجاري وتحقيق التطور الاقتصادي.
فالموقع الجغرافي لبغداد جعلها مركزاً نموذجياً للتجارة الدولية، فهي السوق الطبيعية للتجارة الداخلية، فدجلة والفرات يصلان بينها وبين الطرق البحرية في الجنوب وبينها وبين الموصل وأرمينية والشام في الشمال والغرب، وطريق بغداد – خراسان جعلها مركزاً لتجارة إيران وأواسط آسيا.
أما الموصل، فيبين أهميتها ياقوت الحموي حين يقول (إنها باب العراق ومفتاح خراسان) ورأس طريق أذربيجان، أما الجاحظ فيقول عن البصرة بأنها باب بغداد الكبير ومدخل دجلتها المتدفق بضروب المتاع وأنواع السلع المجلوبة من أطراف الدنيا ومحط رجال الشرق والغرب من مجاهل الصين إلى مفارز الصحراء الكبرى.
وكانت أحوال الأنهار ملائمة للملاحة على نحو لا نظير له، وكان نهر الفرات صالحاً للملاحة، وكانت البضائع التي تنقل بكميات كبيرة فيه هي خشب البناء، وكانت أكبر شبكة من النهيرات توجد شرقي البصرة حيث تفترش مياه الأنهار. وكانت حركة الملاحة كبيرة على نهر دجلة أيضاً فكانت تنحدر بضائع أرمينية إلى بغداد من الموصل، وكانت بغداد نفسها شبيهة بمدينة البندقية, كما اورده الدكتور )أسامة عبدالمجيد العاني) في بحثه حول الحضارة الإسلامية وأسباب النهوض .
هـــ – التسهيلات المصرفية والائتمانية وسرعة المقاصات المالية بين التجار:
الدول الإسلامية على مر عصورها , بنت نظاما مصرفيا دقيقا مرنا . اتصف بالدقة والمرونة في آن واحد , وتمتع بميزة الابتكار المصرفي , ومرونته .
إذ أدرك الاقتصاد الإسلامي أن التسهيلات المصرفية تعلب دورا محوريا في تنشيط الواقع الاقتصادي بشكل عام، بل إن تطور كل من الاقتصاد الوطني وتطور الاقتصاد, يبقى محدوداً ما لم يكن هناك ترافقاً من قبل النشاط المصرفي.
فكان في الاقتصاد الإسلامي وكلاء التجار في المدن الرئيسية , وهؤلاء الوكلاء ينتظمون بنظام تشريعي مرن , يساعدهم على أداء مهامهم بكل دقة وعناية .
فمهمة هؤلاء الوكلاء هي جباية الإيرادات في السوق لمصلحة التاجر الموكّل , وتسديد الذمم المتعلقة بذمته نتيجة التجارة , وقد يضطر البعض للاستدانة لإتمام الصفقات التجارية باسم التاجر المخول لهم المهمة , ويضطر آخرون للاستدانة من بعض الوكلاء , لإتمام صفقاتهم .
فكان الصك التجاري , أو السند المالي , الذي يثبت القرض أو السداد أو إتمام الصفقات , وكان الصك التجاري أو المالي لا يعتبر رسميا إلا إذا كان مختوما بالشمع الأحمر المنظم من الدولة نفسها , إيذانا في رسميته , مما يوجب الوفاء به أو استحقاقه للسداد أو إشعارا بقيمة الذمم المتحققة من الصفقات التجارية , وكونه رسميا بكفالة وتنظيم الدولة نفسها , فإنه يدخل في مفهوم الشيكات والكمبيالات , وباقي السندات الأخرى المتعلقة في مجال الاقتصاد .
إضافة إلى ذلك وجد الصرافون الذين يقومون بإجراء ما اصطلح عليه بعملية (المقاصة) بين الدائنين والمدينين من التجار، وذلك بتحويل الديون من شخص إلى آخر في المدينة نفسها أو بين مدن مختلفة، الأمر الذي يسر عملية التبادل التجاري، فبموجب ذلك لم يضطر التاجر للدفع المباشر عن كل صفقة تجارية.
وكان للصرافين مراكز خاصة مماثلة تماما لمفهوم البنك أو المصارف في عصرنا الحاضر , مثل (درب عون) في بغداد وحلقات أصحاب العينة في البصرة. كما لعبت بيوت (الجهابذة ) التي تشبه المصارف اليوم دوراً كبيراً في تنشيط الحركة التجارية في ذلك العصر حتى أن المستشرق (ماسينيون) يرى بأن أصل المصارف في أوروبا إنما يعود إلى المسلمين.
ومن جانب آخر : وفرّت الدول الاسلامية نظاما لصرافة وتبادل العملات المختلفة , مع ضبط أوزانها وقيمتها , وقيمة الصرف .
فالتجار كانوا محتاجين للصرافين من أجل تحويل العملة من الدنانير إلى الدراهم وبالعكس، إذ تمت الإشارة إلى أن الجزء الشرقي من الخلافة العباسية يتعامل بالدرهم، والجزء الغربي يتعامل بالدنانير. من هنا كانت الحاجة للجوء إلى الصرافين لحل مشكلات الفروق بين عيار وأوزان العملة.
وقد كانت المصارف الخاصة من السعة بحيث كان لها فروع في أماكن أخرى، مثال ذلك مصرف الزبير الذي كان مركزه في المدينة وله فروع في البصرة ومدينة الكلأ، والكوفة وكان كل فرع يمثل مصرفاً محلياً شبه مستقل، رغم ترابط هذه الفروع جميعاً فيما بينها، وظل مصرف الزبير يلعب دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية في البصرة حتى القرن الرابع الهجري .
و- إيجاد البيئة الاقتصادية الجاذبة ضمن منظومة قانونية فاعلة ومرنة :
الاقتصاد الإسلامي للدول الإسلامية على مر العصور المختلفة , لم يفرض ضرائب على الإنتاج , أو رأس المال , ولم يفرض ضرائب على السلع بمختلف أصنافها , ولم يقيّد دخول وسائل الإنتاج بأي نوع من أنواع القيود المالية أو الإجرائية .
بل سهّل تنقل وسائل الإنتاج , وسهّل تنقل رؤوس الأموال بين مختلف الولايات , لا بل تعدى الأمر إلى اجتذاب الاستثمارات الخارجية إن كانت ضرورية للنهضة الاقتصادية الإسلامية , فكان يقدم التسهيلات والحماية على مختلف الصعد لمن يريد القدوم والاستثمار في الدولة الاسلامية .
كل ذلك تم تحت سيادة القانون في الدولة الاسلامية , دون تعدي من أي طرف أو تغول من أي طرف كان .
فيجزم المستشرق السويسري «ميتز» بأنه من الثابت عدم وجود عوائق في القرن الثاني الهجري على أبواب المدن يعيق مَن يدخل أبوابها, إن هذا يسهل من عملية الانتقال والحركة مما يعني سهولة انتقال عناصر الإنتاج المختلفة عبر سائر الأقاليم ونحو الأماكن الجاذبة أي باصطلاحنا المعاصر: مناطق جذب الاستثمار.
ومع كل الإجراءات التي تمليها وظيفة المحتسب في منع الاحتكار والبيوع غير الشرعية، أو التجاوزات التي قد ترتكب مخالفة للقانون ، لم تتوفر أي معلومة تشير إلى أن الدولة فرضت سعراً معيناً على سلعة معينة، إنما كانت تلتزم بسعر المثل. ويعود السبب في ذلك أن أغلب الفقهاء كانوا يرون تحريم التسعير وذلك التزاماً بامتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسعير يوم ارتفاعه في المدينة.
إذ روى أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعرت؟ قال: «إن الله هو القابض الباسط الرزاق المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم أو مال». رواه الخمسة.
إلا أن بعض الفقهاء المتأخرين يجيزون عملية التسعير؛ منهم ابن تيمية، وذلك بعد دراسة الظروف السائدة إبان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ يرى أن السوق في المدينة كانت سلعتها من الجلب وكان إكراه البائعين على أن يبيعوا سلعتهم بثمن معين إكراهاً بغير حق.
ويقول الدكتور محمد المبارك بهذا الصدد: إن تحليل ابن تيمية لوضع المدينة وسوقها في عهد المدينة يدل على بصر وحسن تفهم للعوامل الاقتصادية. فقد فرق بين السوق المغلقة والسوق المفتوحة التي كان عليها حال المدينة.
إن من شان إطلاق هذه الحرية تسهيل عملية انتقال عناصر الإنتاج وسهولة انتقال الناتج عبر الأصقاع المتباعدة، إضافة إلى أن منع التسعير على الأغلب سيجعل التاجر مطمئناً إلى عدم اضطراره للبيع بخسارة، مما يعني تشجيعه على المزيد من النشاط الاقتصادي, وما تقدم بخصوص هذه النقطة هو خلاصة ما توصل اليه الباحث العراقي ( د. أسامة العاني)
نلتقي بعونه تعالى في الحلقة الثانية من هذه السلسلة …وان شاء الله تعالى ستكون تخصصية أكثر .