بقلم: د. هاني العدوان
في مشهد انتخابي استثنائي، فاز زهران مكماني المسلم والمواطن الأميركي الحديث بمنصب عمدة نيويورك إحدى أكبر مدن العالم وأكثرها تأثيرا
فوز مكماني ليس صدفة ولا معجزة بل نتيجة منظومة سياسية حقيقية تحترم إرادة الناس وتمنح الفرصة للكفاءة بغض النظر عن الأصل أو الدين أو الانتماء
لقد أثبت الأميركيون في كل مرة أن المواطنة هناك لا تُقاس بالعرق أو المذهب بل بالقدرة على العطاء وبالإيمان بالمصلحة العامة
فحين يكون معيار القيادة هو الكفاءة يصبح الشعب هو مصدر السلطة وتصبح الدولة انعكاسا حقيقيا لإرادته
لكن هذا المشهد المضيء يكشف بوضوح حجم التناقض بين ديمقراطية تُمارس هناك وديمقراطية تُجمل في دول العالم الثالث وعالمنا العربي جزء منها
كثير من السياسات جعلت من الديمقراطية قوقعة هشة تُفصل على مقاس المصالح السياسية الضيقة، وتُمارس بانتقائية، تُقصي الكفاءات وتهمش العقول وتمنح الأدوار لمن يملكون النفوذ لا لمن يملكون الرؤية
تُدار اللعبة أحيانا بتوازناتٍ دقيقة بين القربى والشللية وأصحاب المال الأسود الذين يمدون أذرعهم في مفاصل الدولة حتى تُصبح مؤسساتها أداة لخدمة المصالح الخاصة لا الصالح العام، وهنا تتراجع فكرة الانتماء للوطن، لتحل مكانها الولاءات الصغيرة والمصالح الذاتية ويصبح الدفاع عن المصلحة العامة فعلا نادرا بل مستهجنا أحيانا
حين تُقدم المصالح على المبادئ وتُختزل الكفاءة في الولاء، تُصاب الديمقراطية بالوهن، وتفقد الدولة روحها
في هذه البيئة لا يولد الإبداع ولا تزدهر الكفاءات لأن أبواب التقدم تُفتح لمن يملك العلاقات لا لمن يحمل الكفاءة وتُغلق في وجه من يؤمن بالعمل والمبادرة، وهكذا يتبدد الانتماء الوطني تدريجيا، ويصبح المواطن جزءا من معادلة النفوذ لا من مشروع الدولة
زهران مكماني فاز لأنه يعيش في نظام يمنح لكل مواطن فرصة متكافئة، لم تُحسب عليه أصوله، ولم يُقصَ بسبب دينه ولم يُحارب لأنه وافد جديد
خاض معركة انتخابية حقيقية أمام صناديق مفتوحة، وصوتَ الناس بإرادتهم الحرة فاحترم الجميع النتيجة
هذا هو الفرق الجوهري بين الديمقراطية كمبدأ والديمقراطية كأداة سياسية تُستخدم متى شاءت السلطة وتُعطل متى شاءت
إن أميركا رغم كل ما يُقال عنها ما زالت تمتلك قدرة مذهلة على تصحيح أخطائها لأنها تملك مؤسساتٍ حية تُحاسب وتُراجع وتُصلح ذاتها
قوتها ليست في سلاحها النووي بل في نزاهة نظامها السياسي وإيمانها بأن الشعب هو مصدر الشرعية الوحيد لذلك تتقدم وتتعافى وتستمر في موقع القيادة
أما عالمنا الثالث فما زال يعاني من سياساتٍ تُقزم الديمقراطية إلى طقوس شكلية، وتُبقي الإرادة الشعبية مؤطرة ضمن حدود ضيقة وتُعيد إنتاج ذات النخب ذات المصالح فتتكرر الأخطاء وتُجهض الأحلام قبل أن تولد
حين يُقصى الأكفاء وتُهمش العقول ويُقدم المال الأسود والشللية والمحسوبية على النزاهة تصبح الدولة عاجزة عن النهوض
الديمقراطية الحقة هي منظومة فكر وإدارة وعدالة ومساءلة، وهي لا تُستورد ولا تُفرض بل تُبنى بتدرج وثقة وإيمان بأن الوطن ملك لجميع أبنائه، لا حكرٌ على فئة أو جهة أو مال أو نسب
إن تجربة زهران مكماني تحمل رسالة واضحة أن الدول لا تنهض إلا حين تفتح أبوابها للكفاءات وتُعيد الاعتبار لقيمة الجدارة، وأن أي نظام يُقصي المخلصين لحساب المنتفعين سيظل يدور في حلقة مفرغة من التراجع
فحين تُحترم إرادة الناس تُبنى الأوطان وحين تُختزل الإرادة في أهواء المصالح تضيع الدول من داخلها
نعم هذه هي أميركا الحقيقية التي لم تستطع السياسات أن تشوه صورتها لأنها قائمة على فكرة المواطنة والمساواة والفرص، وكل دولة تحترم إرادة شعبها ستعلو وتتقدم، أما من يختزل الديمقراطية في الشكل لا الجوهر فسيبقى أسير الركود مهما تلونت الشعارات وتبدلت الوجوه






