العمرو يكتب: نحو قوننة الحد من مظاهر الإسراف والترف في المناسبات الاجتماعية

دقيقتان ago
العمرو يكتب: نحو قوننة الحد من مظاهر الإسراف والترف في المناسبات الاجتماعية

بقلم الدكتور قاسم العمرو- ما زالت منصات التواصل الاجتماعي تتناول مبادرة وزير الداخلية مازن الفراية بين مؤيد ومعارض كل حسب فهمه ونوازعه المهم في الموضوع ان المبادرات يطلقها عادة الشخصيات العامة حتى تلقى صدى ويتم مناقشتها وهذا ما حدث لمبادرة الوزير حول المناسبات الاجتماعية، حيث تشكل المبادرة  للحد من مظاهر الإسراف والترف في المناسبات الاجتماعية خطوة جريئة ومهمة في مسار إصلاح السلوك الاجتماعي الذي انحرف في بعض مظاهره عن القيم الأصيلة التي نفاخر بها. فقد أصبحت المبالغة في إقامة الأفراح، والتكلف في العزاء، والتفاخر بالمظاهر، سلوكًا يتجاوز المنطق والعقل، ويحمّل المجتمع أعباء اقتصادية ونفسية، ويعمّق الفجوة بين طبقاته.

إن الدعوة إلى ترشيد هذه المظاهر لا تعني انتقاصًا من قيم الكرم والعطاء، بل هي محاولة لإعادتها إلى جوهرها الإنساني بعيدًا عن الاستعراض والتباهي. ومن هنا تأتي أهمية أن تتحول المبادرة من مجرد توجيه أو دعوة إلى مشروع قانون منظم، لأن التجربة أثبتت أن السلوك الاجتماعي لا يمكن تعديله بالوعظ وحده، بل يحتاج إلى قاعدة قانونية تُلزم وتوجّه وتردع.

لقد نجحت الدولة سابقًا في تقنين سلوكيات كانت تُعد جزءًا من العادات الاجتماعية، مثل إطلاق العيارات النارية في المناسبات، والذي كان يُنظر إليه في الماضي كمظهر من مظاهر الفرح، فتحول بفضل القانون والتوعية إلى فعل مرفوض ومجرّم. وهنا يبرز دور القانون بوصفه أداة تهذيب لا تقييد، يهدف إلى ضبط السلوك وتصويب العادات عندما تتجاوز حدود المنطق والمصلحة العامة.

ليس من الخطأ مراجعة منظومة القيم عندما تنقلب بعض الممارسات من الإيجابية إلى السلبية. فالمجتمعات الحية هي التي تمتلك شجاعة المراجعة، وتحمي قيمها من الانزلاق نحو المبالغة التي تفقدها معناها الحقيقي. إن الكرم قيمة نبيلة، لكن حين يتحول إلى إسرافٍ واستعراضٍ يصبح عبئًا اجتماعياً وأخلاقياً واقتصادياً، يرهق الأسر ويخلق بيئة من التنافس الطبقي غير المحمود.

إن ما طرحه وزير الداخلية يجب أن يُفهم في سياقه الإصلاحي، فهو ليس تقييداً للحريات الاجتماعية، بل دعوة لتصويب السلوك العام، وتأسيس وعي جديد ينسجم مع قيم الدولة الحديثة. وعلى القوى الاجتماعية والكتل البرلمانية أن تلتقط هذه الرسالة وتحوّلها إلى نقاش وطني مسؤول يهدف إلى وضع قانون متكامل يحدّ من مظاهر التبذير والإسراف وينظمها ضمن إطار عقلاني يحفظ الكرامة دون أن يمسّ بالعادات الأصيلة.

إن سنّ قانونٍ يضبط مظاهر الترف ليس ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة وطنية لضبط إيقاع الحياة الاجتماعية وإعادة الاعتبار للقيم الأصيلة في جوهرها لا في مظاهرها. وعندما يتكامل وعي المجتمع مع إرادة الدولة، يمكننا أن نؤسس لثقافة جديدة تقوم على التوازن، وتُعيد للكرم معناها الأصيل كقيمةٍ إنسانية لا كعبءٍ اجتماعي.

إن مراجعة السلوك الاجتماعي وتقنينه لا تنتقص من تراثنا، بل تحميه وتحافظ عليه من الانحراف، وتمنح الدولة والمجتمع القدرة على المضي نحو إصلاحٍ أخلاقي وقانوني يعزز من تماسك المجتمع ويصون موارده، ويجعل من القانون أداة إصلاحٍ راقية تهدف أولًا وأخيرًا إلى تهذيب السلوك لا معاقبته.