النقد والعاطفة.. أول تجربة نقدية نسائية

36 ثانية ago
النقد والعاطفة.. أول تجربة نقدية نسائية

د. محمد عبد الله القواسمة

تحدثنا كتب الأدب والنقد والبلاغة العربية، مثل: «الشعر والشعراء»، و»طبقات فحول الشعراء»، و»الأغاني» وغيرها عن أول تجربة نقدية نسائية في تاريخ العرب، نُدبت إليها إحدى النساء في العصر الجاهلي، من ذوات الذكاء والمعرفة تُدعى أم جندب.

وأم جندب هذه، تزوجها امرؤ القيس أمير الشعراء في العصر الجاهلي في الفترة، التي أقام فيها في قبيلة طيء عندما هرب من المنذر بن ماء السماء أثناء سعيه للثأر من قتلة والده، الذي ضيعه صغيرًا وحمّله دمه كبيرًا. كانت في الخيمة مع زوجها حين نزل الشاعر علقمة بن عبَدَة التَّميمي ضيفًا عندهما، وراح يتذاكر الشعر مع امرئ القيس. فقالَ امرؤ القيس: أنَا أشعرُ منك. وقال علقمة: بل أنَا أشعر منك!! وانتهى الخلاف بينهما إلى الاحتكام إلى أم جندب كما اقترح علقمة.

سنحت لأم جندب الفرصة في التعبير عما في نفسها من كره لزوجها، الذي تصفه بأنه مُفَـرَّك (تبغضه النساء) وأنه» ثقيل الصدر، خفيف العجيزة، بطيء الإفاقة، سريع الإراقة». فطلبت من كل منهما أن يقولا شعرًا، يصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة.

قال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:

خَليلَيَّ مُرَّا بِي عَلى أُمّ جُنْدَبِ

نُقضِّ لُبَانَاتِ الفُؤَادِ المُعَذَّبِ

ثم قال علقمة قصيدته التي مطلعها:

ذهبتَ منَ الهُجرانِ فِي غَيرِ مَذهَبٍ

وَلــم يـَكُ حــقّا كـلّ هَـذا التَّجَنّب

واستطردَ كلٌّ منهمَا في وصف ناقته وفرسه، فلما انتهيا حكمت لعلقمة بالجودة والسبق. فسألها امرؤ القيس: بم فضلت شعره على شعري؟ أجابت: لأن فرس ابن عبدة أجود من فرسك. قال: وبماذا؟ قالت: إنك زجرت، وضربت بسوطك في قولك:

فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ

وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب

أما علقمة فقال:

ذَهَبْتَ من الهِجران في غير مَذْهَب

ولم يك حقًا كل هذا التجنب

حتى انتهى الى قوله:

فأدركهنّ ثانيًا من عِنانه

يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب

ففرسه أجود من فرسك؛ لأنه قد أدرك الخيل ثانيًا من عنانه من غير أن يضربه بسوط أو يحرك ساقيه. فقال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامقة (عاشقة) فطلقها فخلف عليها(تزوجها) علقمة.

نلاحظ أن أم جندب ظهرت ناقدة موضوعية، حين طلبت من علقمة وزوجها أن يقولا شعرًا في وصف الخيل على روي واحد وقافية واحدة. وكذلك عندما عللت حكمها بتفوق علقمة؛ لأن فرسه أدرك الخيل دون استخدام القوة، فلم يضربه بسوط أو يحرك ساقيه، بخلاف امرئ القيس الذي زجر فرسه وضربه. لكن البيت الذي اختارته من قصيدة امرئ القيس ووقفت عند معناه ليس هو الأفضل؛ ففي القصيدة ما هو أبلغ من بيت علقمة، كما في بيته:

إذا ما جَرى شأويْن، وابتلَّ عِطْفُهُ

تقولُ: هَزيزُ الّريحِ مَرّتْ بأثْأبِ

ففي البيت وصف لفرسه بالخفة والعنفوان، فإذا ركض مسافتين أو شوطين، وابتل جانبه بالعرق، فإنك تظن صوت لهاثه وحركته، كأنه صوت ريح خفيفة تمر بين أوراق شجر الأثأب.

كما أن بيت امرئ القيس، الذي اختارته لا يفهم منه أن فرسه بليد لا يسير إلا بالضرب والزجر وتحريك الساقين، بل إن فرسه تشتد سرعته، إذا ما دعي إلى ذلك بالأساليب، التي يستخدمها كل فارس في حث فرسه على الركض. بل إن ما في قصيدة علقمة من معان جميلة وألفاظ حسنة مأخوذ من قصيدة امرئ القيس، كما توجد أبيات وأشطر مأخوذة منها، فكأن علقمة يرد لامرئ القيس بضاعته.

والخلاصة مما استقر عليه رأينا أن أم جندب، التي يقول عنها الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض» ليست أمّ الناقدات العربيّات على وجه الإطلاق فحسب، ولكنّها أمّ النّقّاد العرب أيضًا» لم تكن ناقدة نزيهة، لكنها ناقدة ذكية في غاية الدهاء حين قبلت التحكيم بين زوجها وعلقمة، واختارت بيتًا من قصيدة كاملة؛ كي تجد فيه ما تستطيع قوله في ذم زوجها امرئ القيس، بطريقة غير مباشرة بأنه يتعامل مع زوجته أو عشيقته بالقسوة، كما يتعامل مع فرسه. نجحت بما أرادت، فكان الحكم قاسيًا على امرئ القيس، الشاعر المعتد بنفسه، والمتسامي على غيره من الشعراء، الذي لم يتوقع أن يكون هذا الحكم من زوجته لصالح علقمة، الذي اقترحها لتكون المحتكم إليها. لقد تحقق لها ما كانت ربما تخطط له، فطلقها امرؤ القيس وتزوجها علقمة. وفي ذلك انتصار للذاتية على الموضوعية، وغياب النقد بسوط العاطفة من أجل تحقيق مصالح خاصة، مثلما يحدث كثيرًا هذه الأيام.