بقلم: المهندس خالد السماعنة
في زاوية ما من يومك العادي، ربما دفعت “قهوة” لموظف ليعجّل لك معاملة، أو قدمت هدية صغيرة لتتجنب تعقيدًا إجرائيًا، أو حتى استعنت بمعارفك لأنك لا تملك الوقت لتقف في الطابور الطويل.
لم تقصد أن تفسد… فقط حاولت أن “تنجو”.
لكن ما لا نحسبه هو أن هذه النجاة الصغيرة، حين تتكرر، تتحول إلى طوفان صامت يغرق العدالة، ويقوض ثقة الناس في النظام. نحن لا نتحدث هنا عن ملايين تُنهب، بل عن “الفساد الصغير”… ذاك الذي نرتكبه بأيدينا، ونمضي بعدها لنلعن الفاسدين الكبار.
“بس مشيلي هالمعاملة”
في الدوائر الحكومية، في المستشفيات، في المدارس وحتى في الأسواق… تتسلل عبارات مثل:
“خلصني الله يخليك”،
“هاي بس شغلة بسيطة”،
“أخوي في المنصب الفلاني، ببعته يحكي معك”،
وكأن النظام نفسه لم يعد يكفي، بل يحتاج دائمًا إلى “واسطة”، إلى ضغط خفيف، إلى باب خلفي.
لقد أصبحنا نعيش في مجتمع يألف الفساد الصغير، لا لأنه يحب الفساد، بل لأنه فقد الثقة بأن “السير الطبيعي للأشياء” يمكن أن ينجح دون دفعة من تحت الطاولة.
تبريرات مغلفة بالواقعية.
“كل الناس بتعمل هيك”…
“ما بدها تعقيد، شغلة بسيطة”…
“هو أصلاً ما بيشتغل إلا بهالطريقة”…
بهذه التبريرات، نغسل أيدينا من الذنب، ونُقنع أنفسنا بأننا ضحايا لا مشاركون.
لكن في الحقيقة، نحن نغذي شبكة دقيقة من الاعتياد، تتحول فيها الرشوة إلى “إكرامية”، والواسطة إلى “خدمة بسيطة”، والتجاوز إلى “حل عملي”.
من أين يبدأ الانهيار؟
الفساد الصغير لا يقتل مباشرة، لكنه يضعف جهاز المناعة الأخلاقي في المجتمع.
هو ما يجعل الطالب ينجح بالغش، والمريض يُعامل بتفاوت، والمعاملة تسير بناءً على من تعرف لا ما تستحق.
ومع الوقت، تتحول هذه “الاستثناءات” إلى قاعدة، ويصبح الشريف غريبًا، والمستقيم ساذجًا، والرافض “معقدًا”.
ومضة أمل ،،،
لكن، هل يمكن التراجع؟
نعم، حين نُدرك أن رفض الفساد الصغير ليس بطولة، بل واجب بسيط.
حين نُعامل الناس بعدل دون أن نسأل: “إنت قريب مين؟”.
حين نعلم أبناءنا أن الطريق الطويل قد يكون متعبًا، لكنه نظيف.
حين نُعيد تعريف “الشطارة”، لا على أنها تجاوز، بل على أنها التزام.
خاتمة:
نعم، الفساد الصغير قد أصبح جزءًا من حياتنا اليومية…
لكنه ليس قدرًا.
هو انعكاس لوضع مأزوم، لكن كسره يبدأ من أصغر المواقف: أن ترفض أن تُسرّع معاملة على حساب آخر، أن تقول “لا” حين يطلب منك أحدهم أن تغض الطرف، أن تصرّ على الطابور، ولو طال.
ففي هذه التفاصيل الصغيرة، تبدأ المعارك الحقيقية.
دمت يا أردن بخير ،،