بقلم: حسام بوزكارن
في لحظة تاريخية فارقة، تقف سوريا الجديدة أمام معادلة معقدة تحمل في طياتها أبعادا سياسية وأمنية واجتماعية متشابكة. فبينما تحاول دمشق ترتيب بيتها الداخلي بعد عقود من الحرب والدمار، تجد نفسها أمام ضغوط متزايدة من جهات متعددة، أبرزها الضربات الإسرائيلية المتكررة التي باتت تطال قلب العاصمة. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل تمهد هذه الضغوط الطريق نحو تطبيع إسرائيلي سوري، وما طبيعة هذا التطبيع المحتمل؟
لا يمكن فهم التحركات الإسرائيلية الأخيرة دون وضعها في سياق استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في سوريا. فالضربات التي استهدفت وزارة الدفاع السورية ومحيط القصر الرئاسي ليست مجرد رد فعل على أحداث السويداء، بل هي جزء من مخطط أكبر لفرض واقع جديد على الأرض.
تستخدم إسرائيل “الورقة الدرزية” كذريعة لتحقيق أهداف استراتيجية أعمق، تتمثل في إحكام السيطرة على المناطق المتاخمة لحدودها، وإضعاف الدولة السورية من خلال تفكيك وحدتها الجغرافية والسياسية. هذا المنهج ليس جديدا في الكتاب الإسرائيلي، فقد حاولت تل أبيب استخدام الورقة الطائفية مرارا مع العلويين في الساحل والأكراد في الشمال لكنها فشلت في تحقيق أهدافها.
الأمر المختلف هذه المرة هو التوقيت والظروف الدولية. فسوريا اليوم تواجه ضغوطا متعددة المصادر، من الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، في وقت تحاول فيه إعادة بناء مؤسساتها وترسيخ سيطرتها على كامل أراضيها. هذه الضغوط المتزامنة تضع الحكومة السورية أمام خيارات صعبة، قد تدفعها نحو تقديم تنازلات لم تكن تتصورها في السابق.
الانقسامات التي بدأت تظهر بين القادة في دمشق حسب عدة تقارير، حول كيفية التعامل مع الضغوط الخارجية، خاصة الأمريكية والتركية، تكشف عن هشاشة في صنع القرار قد تستغلها إسرائيل لفرض شروطها. فعندما تطلب واشنطن وأنقرة سحب القوات السورية من السويداء، وتهدد تل أبيب بمزيد من الضربات في حال عدم الامتثال، تجد دمشق نفسها محاصرة بضغوط لا تملك الكثير من الخيارات للتعامل معها.
سيناريوهات التطبيع: بين الإكراه والبراغماتية
في ظل هذه المعطيات، تبرز سيناريوهات مختلفة للتطبيع المحتمل بين سوريا وإسرائيل، كل منها يحمل تبعات مختلفة على المستوى الإقليمي والدولي.
السيناريو الأول هو “التطبيع الإكراهي”، حيث تستجيب الحكومة السورية للضغوط الإسرائيلية والدولية وتقبل بتسوية شاملة مع إسرائيل دون شروط مسبقة. هذا النوع من التطبيع، الذي يمكن وصفه “بالرضوخ”، قد يتضمن الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وتقديم ضمانات أمنية لإسرائيل، وربما حتى تطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية.
إشارات هذا السيناريو بدأت تظهر في الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الدروز في السويداء، والذي ينص على انسحاب الجيش إلى ثكناته وتسليم المسؤولية للأمن الداخلي. هذا الاتفاق، الذي جاء تحت ضغط الضربات الإسرائيلية، يمكن أن يكون نموذجا لما قد تطلبه إسرائيل في مناطق أخرى.
السيناريو الثاني هو “التطبيع الشكلي”، حيث تدخل سوريا في عملية تفاوض مع إسرائيل تهدف إلى تهدئة الأوضاع دون تقديم تنازلات جوهرية. هذا النوع من التطبيع يركز على الجوانب الأمنية والتقنية، مثل تنسيق الحدود ومنع الاحتكاك، دون التطرق للقضايا السياسية الكبرى مثل الجولان أو اللاجئين.
المؤشرات على هذا السيناريو تأتي من اللقاءات التي عقدت في أذربيجان بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين، والتي فشلت بحسب المعلومات المتاحة، لكنها تشير إلى وجود قنوات اتصال قائمة. هذا النوع من التطبيع قد يكون أكثر قبولا داخليا وإقليميا، لكنه قد لا يحقق الأهداف الإسرائيلية الكاملة.
السيناريو الثالث هو “التطبيع التدريجي”، حيث تبدأ العملية بخطوات صغيرة في مجالات محددة، مثل الأمن والاقتصاد، ثم تتوسع تدريجيا لتشمل جوانب أخرى. هذا النهج يعطي الطرفين مرونة أكبر في التعامل مع الضغوط الداخلية والخارجية، ويقلل من مخاطر الانهيار المفاجئ للعملية.
ثحسابات المصالح والتوازنات الإقليمية
إن أي تحليل للتطبيع السوري الإسرائيلي المحتمل يجب أن يأخذ في الاعتبار التوازنات الإقليمية والدولية المعقدة. فسوريا اليوم ليست دولة معزولة، بل هي جزء من شبكة معقدة من التحالفات والمصالح المتضاربة. الموقف التركي يمثل عاملا حاسما في هذه المعادلة. فأنقرة، التي تدعم الحكومة السورية الجديدة، تجد نفسها في موقف حرج أمام الضغوط الإسرائيلية. من جهة، تريد تركيا استقرارا في سوريا يخدم مصالحها الأمنية والاقتصادية، ومن جهة أخرى، لا تريد أن تبدو وكأنها تدفع سوريا نحو التطبيع مع إسرائيل. هذا التناقض يفسر الدعوات التركية “لوقف الغارات الإسرائيلية” مع الضغط في نفس الوقت لسحب القوات السورية من السويداء.
الموقف الأمريكي أكثر وضوحا، حيث تبدو واشنطن راضية عن الضغوط الإسرائيلية على سوريا، رغم دعواتها الشكلية “لخفض التصعيد”. المبعوث الأمريكي توم براك، الذي دعا إلى وقف إطلاق النار في السويداء، لم يدن الضربات الإسرائيلية بشكل واضح، مما يشير إلى تنسيق أمريكي إسرائيلي في هذا الملف.
الموقف الأوروبي يظهر قدرا من القلق حيال “الانتهاكات الإسرائيلية لسيادة سوريا”، لكنه لا يتجاوز الإدانات الدبلوماسية. هذا الموقف المتردد يعكس التناقضات الأوروبية في التعامل مع الملف السوري، حيث تريد أوروبا استقرارا في سوريا دون أن تدفع الثمن السياسي للوقوف ضد إسرائيل.
أما الموقف الإقليمي، فيتباين بين الدول العربية. فبينما تدعم بعض الدول الخليجية التطبيع السوري الإسرائيلي باعتباره جزءا من “اتفاقات أبراهام” الموسعة، تعارضه دول أخرى مثل العراق ولبنان لأسباب سياسية ومذهبية. هذا التباين يضع سوريا في موقف صعب، حيث عليها الموازنة بين المصالح المتضاربة لحلفائها الإقليميين.
الحسابات الداخلية السورية تلعب دورا لا يقل أهمية عن العوامل الخارجية. فالمجتمع السوري، الذي عانى من سنوات طويلة من الحرب، قد يكون أكثر استعدادا لقبول تسوية سياسية تحقق الاستقرار، حتى لو كانت تتضمن تنازلات للعدو التقليدي. هذا التوجه يتعارض مع المواقف الأيديولوجية التقليدية، لكنه يعكس واقعا جديدا فرضته ظروف الحرب والدمار.
الأمر المثير للاهتمام هو أن المعارضة لأي تطبيع محتمل قد تأتي من داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية، التي تعتبر المقاومة ضد إسرائيل جزءا من هويتها المؤسسية. هذا التناقض بين الضرورات السياسية والقناعات المؤسسية قد يخلق توترات داخلية قد تؤثر على استقرار النظام الجديد.
إن الضربات الإسرائيلية على سوريا واستخدام الورقة الدرزية كذريعة للتدخل تمثل جزءا من استراتيجية أوسع لفرض واقع جديد على الأرض. هذه الاستراتيجية قد تنجح في دفع سوريا نحو تطبيع مع إسرائيل، لكن طبيعة هذا التطبيع ومداه سيعتمد على عوامل متعددة، أبرزها قدرة الحكومة السورية على مقاومة الضغوط الخارجية، والتوازنات الإقليمية والدولية، والحسابات الداخلية للمجتمع السوري.
ما يبدو واضحا هو أن سوريا تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي، وأن الخيارات التي ستتخذها في الأسابيع والشهور القادمة ستحدد مسار المنطقة لسنوات قادمة. والسؤال الذي يبقى مفتوحا هو: هل ستختار دمشق طريق التطبيع الإكراهي تحت ضغط القوة، أم ستجد صيغة أخرى تحافظ على كرامتها وسيادتها في عالم متغير؟
الورقة الدرزية وحسابات دمشق: هل تقود ضربات إسرائيل إلى تطبيع بلا شروط؟
