بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
في زمن تعكّر فيه صفو الحقيقة، واختلطت فيه شعارات المقاومة بأدوات الهدم، تطل علينا مشاهد الطوفانين – طوفان الأقصى وطوفان السويداء – كمشهدين مترابطين حدّ التآخي في خدمة مشروع صهيونيّ قديم قُدّ من رحم الحقد والتوسع: مشروع “إسرائيل الكبرى”. في السابع من أكتوبر، أعلنت حماس عن انطلاق “طوفان الأقصى”، عملية عسكرية مفاجئة، رفعت شعارات البطولة والمقاومة، لكنها في جوهرها لم تكن سوى بابٍ فُتح على مصراعيه لحرب إبادة شاملة على غزة، وسُلّمٍ ممهّد لمشروع إعادة هيكلة المنطقة، بخرائط الدم وأقلام الكيان.
ما جرى في السابع من أكتوبر لم يكن ضربة استراتيجية ضد الكيان المحتل، بل انتحار سياسي وعسكري دفع ثمنه الأبرياء، وأُهدِيَ عبره العدو ذريعة ذهبية لتدمير غزة فوق رؤوس ساكنيها. كانت عملية بلا أهداف واضحة، ولا حسابات ميدانية دقيقة، وكأنها كُتبت في مكاتب تُدار عن بُعد، لا يهمها من يُقتل ولا من يُهجّر، بقدر ما يهمها ماذا سيتغير على الطاولة السياسية. والنتيجة؟ أكثر من 38 ألف شهيد، نصف مليون مشرد، وتدمير ممنهج لكامل البنية التحتية، في حين ظلّت القيادات في أماكنها، وبعضها في فنادق العواصم، تُغرد وتصرخ وتُتاجر بالدم.
ثم لا تمضي أيام، حتى يُفتح الباب في الجنوب السوري على طوفان آخر، لكنه بطابع مختلف. “الطوفان الدرزي” الذي خرج من محافظة السويداء بزخم إعلامي ودعائي ضخم، تحت يافطة “الكرامة”، بينما جوهره لم يكن سوى طلقة أخرى في صدر وحدة سوريا، وإعلان مبطّن لانفصال طائفي تم التحضير له لسنوات طويلة، ضمن أجندة أمريكية – إسرائيلية واضحة المعالم. وليس سرًا أن قادة هذا الحراك مرتبطون بقنوات تمويل مشبوهة، ومراكز ضغط دولية، وشخصيات تربطها علاقات مباشرة بواشنطن وتل أبيب. فهل نحن أمام مصادفة؟ أم أمام طوفانين متزامنين، يحملان أسماءً برّاقة ويؤديان وظيفة واحدة: تمزيق ما تبقى من جبهة العرب.
إن التواطؤ لا يُقاس بالنوايا المعلنة، بل بالنتائج الملموسة. وطوفان حماس – من حيث يدري أو لا يدري قادته – كان هدية تاريخية للكيان، أعادت له شرعيةً دولية كان قد فقدها، وجعلت الإعلام الغربي يُجمّل صورته كضحية. لقد كُسرت غزة، وخُنقت الضفة، وفُتحت أبواب التطبيع على مصراعيها باسم “محاربة الإرهاب”. أما في الجنوب السوري، فإن الطوفان الدرزي يأتي ليُكمل هذا المشهد، عبر خلق كيان طائفي جديد، على حدود الجولان، يتماهى مع المشروع الأمريكي لتقسيم سوريا، ويؤمن ظهر الكيان المحتل.
وهنا لا بدّ من التذكير بأن الجنوب السوري، وتحديدًا السويداء، شهد خلال السنوات الأخيرة تغلغلًا استخباراتيًا غير مسبوق. تم تمكين قوى محلية ذات طابع ميليشيوي، وجرى ضخّ أموال مجهولة المصدر، وفتح قنوات إعلامية تمهّد للفصل الطائفي تحت عنوان “الحقوق”. وما هي إلا نسخة مشوهة مما جرى سابقًا في الشمال الشرقي مع قسد، ولكن هذه المرة بزيّ درزي واضح المعالم، ومظلة دولية مشبوهة الصمت.
ومن يربط بين الطوفانين، يلمس بسهولة كيف تحرّك الحدثان لخدمة لحظة واحدة: لحظة تكسير محور المقاومة من الداخل، وضرب وحدة سوريا وفلسطين، وتهيئة البيئة الجغرافية والنفسية لولادة “إسرائيل الكبرى” من بوابات ممزقة.
ولنكن واضحين: إسرائيل لا تريد فقط كسر غزة، بل تريد تحييد سوريا بالكامل عن محور المقاومة، عبر خلق كانتونات طائفية تُدار من الخارج، ويُستنزف فيها الشعب والجيش، وتُحوّل الجغرافيا إلى ساحة صراع داخلي. ولعل أخطر ما في هذا أن أدوات هذا المشروع، هذه المرة، ليست دبابات الاحتلال، بل قوى محلية تحمل رايات “الكرامة” و”المقاومة”، لكنها تمضي، بوعي أو بجهل، في المسار ذاته الذي رُسم في تل أبيب.
فأين المقاومة حين تتحول إلى ذريعة للمجازر؟ وأين الكرامة حين تُرفع فوق مشروع تقسيم البلاد؟ إن المقاومة الحقيقية لا تكون بتقديم الشعب قربانًا على مذبح الجهل، ولا تكون الكرامة بتمزيق الأرض تحت راية الطائفة.
ما فعلته حماس في أكتوبر لم يخدم إلا إسرائيل، وما يفعله دعاة الانفصال في السويداء ليس إلا تكرارًا لمشهد الشمال السوري، لكن بأقنعة جديدة. وإن لم تنهض الشعوب، وتفضح هذه المسرحيات المكشوفة، فسيمتد الطوفان ليغرق كل بيت، وستُرسم الخرائط بالدم، وتُبارك في البيت الأبيض، وتُوقّع بمباركة أدوات الداخل، ويُقال يومها: هنا كانت دمشق، وكان اسمها سوريا… وهنا كانت فلسطين، وكان لها مقاومون.