لقد فاتني (البكم) ..

20 ثانية ago
لقد فاتني (البكم) ..

بقلم عبدالهادي راجي المجالي

…. حين أجلس في جاهة أو عزاء ، عيني تراقب المشهد بدقة …
إذا دخل باشا سابق أو حالي كل الكراسي تتحرك ، والكل يقف لأجل أن يجلس الباشا ويخرج من المكان على أقل تقدير ب ( 200) قبلة ، بالمقابل إذا دخل وزير سابق او حالي ، تجده إما يبحث عن مكان ..وإما يحاول لفت الإنتباه له ، أو يمارس الزهد بالجلوس في الخلف ، هو يحاول أن يقدم نفسه كزاهد ولكن الحقيقة تقول أن أحدا لم يعره انتباها .
لماذا يحظى الأمني في المجتمع الأردني بالحفاوة ، في حين أن السياسي يفتقدها …المعادلة بسيطة لأن الأول هومن أنتج الثاني ، لأن الأمني ببساطة هو من أنتج السياسي في حين أن كل السياسين في الأردن باستثناء وصفي التل ، لم يستطيعوا أن يديروا مشهدا أمنيا ، أو يدخلوا على الأقل إلى غرفة العمليات والسيطرة في جهاز الأمن العام .
الأردن في تاريخه لم يحصل على فترة هدوء ، حتى يجعل الأمني يمارس عمله دون أن تكون عينه على السياسي ، ملف الربيع العربي كله كان أمنيا ، وملف حرب الخليج الثانية واجتياح العراق كان أمنيا ، ملف الأزمة السورية ..ملف الإخوان ، حتى إذا عدنا لمرحلة الثمانينات …والصراع مع المنظمات الفلسطينية …ستجد أن طغيان الأمني على السياسي كان ضرورة ومصلحة وطنية .
ولكن السؤال الذي يقض مضجعي ، نجوم الساحة الحالية ..الذين خرجوا من طاولات الإستديوهات الفاخرة ، وشتموا الإخوان وإيران ..وشككوا في مايحدث في غزة ، وبعضهم فرد قلبه على الطاولة وشرح لنا كيف تغير الأردن من واقع كان يراه إلى وطن في نظره ، والبعض الاخر صعدوا إلى أعلى المناصب باسم الدفاع عن الهوية ..وبعضهم نصب نفسه كوصيا على (الشرق أردنيين) ..وطالب كل من لايعجبه البلد بالرحيل عنها ، وبعضهم استقل في مؤسسات إعلامية ورسمية وصار ينظر للمؤسسة على أنها دولة والدولة مؤسسة ، وصنف الناس تحت قائمة النخبة الليبرالية المتنورة ، وصنفنا نحن تحت خانة المجتمعات العشائرية الرجعية …هؤلاء من أنتجهم ؟
هل هم نتاج مجتمعات السياسة أم نتاج مجتمع الأمن ؟ ..أنا قرأت تاريخ وصفي التل كله ، وأظن أن هذا الرجل يمتلك ميزة فريدة عن غيره في تاريخ البلد وهي أنه كان في الشمس ، والمؤسسات كانت في ظله حين كان رئيسا للوزراء ، وصفي لم ينتج قرارات مفصلية أو قرارات حرب لكنه أنتج الشخصية الأردنية الفريدة والمستقلة …لهذا لم يجرؤ الأمني على أن يقول أنه هو من أنتج وصفي ، ومجتمعات السياسة ، لم تجرؤ هي الأخرى أن تقول بأنها هي من أنتجت وصفي …لأن وصفي كان هو بحد ذاته عجلة إنتاج وطنية .
أعود إلى السؤال ..هؤلاء من أنتجهم ؟ .. أظن أن الدولة الأردنية ستدخل منعطفات القلق إذا ظلت تعتمد على متلازمة (الإنقلابات) في المواقع المفصلية ، وأظن أنها ستدخل نفق فقدان الأمل والثقة ، إذا ظلت تعتمد برنامج تعزيز السلوك الإيجابي عبر تحفيز بعض (المنقلبين) على ماضيهم وأحزابهم بالمناصب والتكريم .
الأردن لم يكن هكذا أبدا ، الأردن كان يرعى أولاده مثلما ترعى الأرض سنبلة القمح وتحتضنها بين ذرات ترابها ، والأردن كانت تحالفاته مع الغيورين مع الصادقين ، ومع الوعي …الأردن هو الوطن الذي صعد فيه البدوي من تحت بيت الشعر وذهب للخدمات الطبية ، وصار طبيبا عالميا يأتيه المرضى من كل مكان ..والأردني البسيط الفقير الطيب ، هو الذي بنى مؤسساته التعليمية باسم الوفاء للعرش وحب التراب ، والأردني هو الذي ورث أخلاقه وسجاياه من العشيرة ومن القرية ومن مجتمعات البدواة والفلاحة ، وأسقط هذه الأخلاق على المؤسسة العسكرية والأمنية التي دخلها ، فصارت هي المؤسسات الوحيدة في عالمنا العربي التي لم تتورط بالدم ولا بالسحل ولا بالخطف ، مؤسسات بنيت على قواعد الأخلاق والرجولة .
أنا أفهم أن المناصب في الدولة ، تمنح على قواعد الولاء للعرش والإنتماء للأرض والإخلاص والكفاءة …كيف صارت المناصب تمنح على قواعد الردح عبر الفضائيات ؟ وعلى قواعد التنفيع ، وعلى قواعد لم نعد نفهمها ..
إن ما يحدث الان هو اعتداء على الشخصية الأردنية التي بنيت عبر مؤسسة العشيرة والدولة ، هو محاولة مسخ هذه الشخصية ، وتقديم الإنقلابات فيها كحالة طبيعية …وتقديم مذاهب التكسب والتربح والإستزلام كنموذج لهذه الشخصية .
أنا لم اقدم إجابة على سؤال مقلق وهو : هؤلاء النجوم من أنتجهم …أظن أن (بكم) الإخوان هو الذي أنتجهم ، وللأسف البكم صار يقود مرحلة خطرة من تاريخنا الان..البكم أنتج نوابا وأعيانا ، أنتج كتابا وضميرا ، أنتج سياسة وتنظيرا …ومازلت كل يوم ألوم نفسي ، لماذا في كل ما كتبت عبر (30) عاما كنت أتفاخر بأني من الناس الذين صعدوا (الكونتنتال والروفر) ..ولم أكن ممن صعدوا (البكم) ..
في العالم هنالك مثل تتداوله كل الشعوب وهو : (لقد فاتك القطار) ..إلا الأردن فالمثل المناسب لحالتنا هو : (لقد فاتني البكم) .