الروائي د. محمد عبد الله القواسمة
يأتي الإنسان إلى الحياة، ويخرج من بطن أمه، وهو يصرخ في وجه هذا الواقع الجديد الذي زج فيه، وإذا ما انتصر في معركته الأولى، وتخلص من المعيقات التي تحاول منعه من الخروج في خلق سليم، تتوالى عليه المصاعب التي يُجبر على التعامل معها، وبعد أن يتغلب عليها، ينطلق في مراحل النمو، وفي كل مرحلة يواجه مكابدات كثيرة، تترك آثارها في جسده وعقله، فيتعلم بأن الحياة ليست سهلة؛ فهي تمتلئ بالتعب والمرض، وصعوبات العمل والعيش، ويملأ قلبه الرعب وهو يرى كثيرين يتخطفهم الموت، وقد يكونون من أحبابه وأصدقائه ومعارفه، فيدرك الحقيقة الخالدة بأنه سيموت.
يرى الدكتور هشام غصيب؛ استنادًا إلى تلك التجارب والرؤى أن الحياة مقاومة، والإنسان كائن مقاوم، يقضي حياته، وهو يقاوم المرض والفقر والجوع والحرمان، ويقاوم التيه والاغتراب والضياع. وأن المقاومة حالة طبيعية في الإنسان، وهي أساس كل إبداع في الأدب والفن، وبخاصة مقاومة الظلم وفقدان العدالة. يقول الشاعر سميح القاسم:
ربما أفقد ما شئت معاشي
ربما أعرض للبيع ثيابي وفراشي
ربما أعمل حجارًا وعتالًا وكناس شوارع
ربما أبحث، في روث المواشي، عن حبوب
ربما أخمد عريانًا وجائع
يا عدو الشمس لكن لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي سأقاوم
لا شك أن سمة المقاومة في الإنسان والكائنات كافة، ولكنها في الإنسان ليست عامة، فليس كل إنسان مقاوم، والحقيقة – كما أرى- يكون الإنسان في مواجهة الحياة، أو مواجهة عماها أمام خيارين عليه اختيار أحدهما، الأول أن يواجهها بالمقاومة كما يرى الدكتور غصيب، والثاني بالاستسلام وانتظار التلاشي والعدم.
في الخيار الأول يظهر الإنسان قويًا محبًا الحياة، ممتلئًا بالأمل والتفاؤل، مكافحًا الظلم والمرض والحرمان والفقر، ولا يكون أسيرًا للماضي ولا غارقًا في الخوف من المستقبل.
وفي الخيار الثاني يبدو الإنسان ضعيفًا متألمًا طافحًا باليأس، مستسلمًا للمرض والظلم والحرمان، أسيرًا للأمنيات القاتلة في انتظار المصير المحتوم، وكأنه يردد قول الشاعر:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
ويقدم لنا الروائي الأمريكي إرنست هيمنجواي أنموذجًا فريدًا للخيارين: الأول من خلال بطل روايته «الشيخ والبحر»، والثاني من خلال نهايته المأساوية. الخيار الأول، كما فعل سانتياغو بطل الرواية؛ إذ ظهر مقاومًا أسماك القرش، التي لاحقته كي تظفر بتلك السمكة الكبيرة، التي تمكن من اصطيادها بعد أيام من فشله في الصيد. قاوم سانتياغو أسماك القرش، وهو يدرك بأنه مهزوم لا محالة في صراعه معها. كان يستطيع أن يسلم صيده لأسماك القرش، ويستسلم لمصيره، لكنه وجد حياته في المقاومة التي فرضت عليه.
أما الخيار الثاني فيتمثل في انتحار هيمنجواي نفسه، الذي اختلق شخصية سانتياغو. لقد اختار الانسحاب من مواجهة الحياة، وأقدم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه، مع أنه في رواياته كلها لم يترك أبطالها ينتحرون، بل صورهم مقاومين يواجهون الحياة بقوة وصبر. وكان قراره الموت استعجالًا للوصول إلى النهاية التي لا بد منها، وكأنه أراد أن يصرع الموت قبل أن يصرعه. ولا يمكن أن يكون هذا الفعل من صفات المقاوم، بل من صفات اليائسين والضعفاء.
في النهاية ما نرغب في تأكيده أن الإنسان في أثناء حياته مهدد بمخاطر كثيرة، على رأسها إدراكه أن وجوده قصير، وأنه على أية حالة يعيش فيها مقاومًا أو مستسلمًا مهزوم لا محالة. مع ذلك فلا مفر أمامه إلا أن يواجه صعاب الحياة وأثقالها ووجوه الظلم فيها بما يملك من وسائل، وفي ذلك تكون أهميته وقيمته أمام نفسه وأمام الآخرين، وفي الآخرة أمام رب العالمين.