وطنا اليوم /خاص / بقلم الدكتور قاسم العمرو.
في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة والعالم، ألقى جلالة الملك عبدالله الثاني خطابًا مؤثرًا أمام البرلمان الأوروبي في بروكسل، حمل في طياته مزيجًا نادرًا من الحكمة السياسية والبُعد الأخلاقي والإنساني. لم يكن الخطاب مجرد إحاطة تقليدية بشأن الأوضاع الجيوسياسية، بل كان بمثابة بيان ضمير حيّ، يُخاطب أوروبا من منبرها التشريعي الأعلى ويحثها على تذكّر إنسانيتها في زمن تتصدّع فيه القيم وتتشوش فيه الحقائق.
منذ اللحظة الأولى، وضع جلالة الملك الإنسان في صُلب القضية، متجاوزًا لغة الحسابات والتحالفات نحو خطاب أخلاقي يعيد الاعتبار لكرامة البشر وحقهم في الحياة. تحدث بوضوح عن المأساة في غزة والضفة الغربية، مؤكدًا أن ما يحدث هناك لا يمكن أن يُبرر تحت أي ظرف، وأن الصمت الدولي المتواصل يُشكّل خيانة للمعايير التي يدّعي العالم الحر الدفاع عنها. حين خاطب الملك البرلمانيين الأوروبيين، لم يفعل ذلك من موقع الضعف أو المجاملة، بل من موقع الشريك الذي يحمل مسؤولية أخلاقية وسياسية تجاه شعب محاصر، ويطالب المجتمع الدولي بأداء دوره الحقيقي في حماية الأبرياء.
لم يأتِ الخطاب من باب الانفعال، بل اتسم برصانة رجل الدولة القادر على رؤية المشهد بأبعاده المختلفة. حذّر جلالته من توسع رقعة الصراع في المنطقة، مشيرًا إلى أن امتداد العمليات العسكرية ليشمل دولًا أخرى، مثل إيران، قد يفتح الباب أمام كارثة إقليمية غير محسوبة العواقب. وفي ذلك دعوة واضحة لأوروبا للقيام بدور أكثر فعالية في وقف التصعيد ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة شاملة لن ينجو من آثارها أحد.
كما قدّم الأردن بوصفه شريكًا عاقلًا يمكن الوثوق به، وركيزة للاستقرار في منطقة تعج بالتوترات، حيث عبّر جلالته عن إيمان الأردن العميق بالقيم المشتركة التي تجمع الحضارات، وبدوره في حماية المقدسات، وتجذّره في ثقافة السلام والاعتدال. وقد شدد على أن الدور الأردني لا ينبع من مصلحة ضيقة أو حسابات سياسية مؤقتة، بل من إيمانٍ تاريخي ووطني بضرورة حفظ الأمن الإقليمي عبر العدالة والاعتراف بحقوق الشعوب.
في خطابه، وجه جلالة الملك نقدًا ذكيًا وغير مباشر لممارسات بعض الدول الغربية، التي ترفع شعارات القانون الدولي في قضايا معينة بينما تصمت تمامًا عن تطبيقه في فلسطين. هذه المفارقة الأخلاقية التي أشار إليها الملك ليست مجرد عتب دبلوماسي، بل تذكير قاسٍ بأن فقدان المصداقية الأخلاقية سيُضعف من قدرة أوروبا على التأثير والبناء في المنطقة.
ولم يغب عن الخطاب الملف الفلسطيني بجوهره، حيث جدّد الملك تأكيده على أن لا أمن ولا استقرار دون حل عادل للقضية الفلسطينية، وأن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ليست مجرد مطلب فلسطيني، بل حجر الزاوية في تحقيق السلام في الشرق الأوسط. القدس، التي تحتفظ المملكة الأردنية الهاشمية بوصايتها الهاشمية على مقدساتها، كانت حاضرة في خطاب الملك كرمز للهوية، وللعدل، وللحوار بين الأديان.
خطاب جلالة الملك لم يكن عابرًا، بل هو بمثابة إعلان مواقف استراتيجية ورسائل موجهة بدقة إلى العواصم الأوروبية. خطاب يرفع سقف المطالب الأخلاقية، ويدعو لوقف الحرب، ويفتح أبواب الحوار على أساس احترام الحقوق لا على منطق القوة. إنه خطاب يُعيد بناء الجسور بين الشرق والغرب، لكن هذه المرة ليس من بوابة المصالح، بل من بوابة القيم.
لقد أثبت الملك مرة أخرى، أن القيادة ليست في عدد الجنود ولا في ضخامة الاقتصاد، بل في شجاعة الموقف، وصدق الكلمة، وقدرة الزعيم على أن يكون صوتًا للعقل في زمن الصراخ. وفي بروكسل، لم يكن الملك مجرد متحدث باسم الأردن، بل كان صوتًا نقيًا باسم المنطقة بأسرها، صوتًا يحمل رسالة العرب إلى ضمير العالم، ويوقظ ما تبقّى من إنسانية في السياسة الدولية.