عبدالهادي باشا المجالي رحل مظلوماً

13 فبراير 2021
عبدالهادي باشا المجالي رحل مظلوماً

كتب سلطان الحطاب

كان ممتداً مترامياً عالي الموج.. لن يحيط كاتب في بحياته في مقالة، بل يحتاج تتبعه الى مجلد كبير..
كنت عرضت عليه قبل شهر من رحيله ان يفتح لي بعض خزائن أسراره، وان يُفرج عن ما ظل يحمله من معلومات ومواقف اثرت في الحياة السياسية الاردنية.. كان يبتسم ويتحمس ويستمهلني لبعض الوقت دون ان يعلم ان الوقت يسرقنا، وأنه ينادي علينا بالنزول في المحطة التالية، كنت أرغب ان أكتب مذكراته المتنوعة المصادر، والتي في اعتقادي لو كتبت لكانت الأهم بين كل ما نشر من مذكرات للاردنيين الذين عملوا في العمل العام..
كنت حين أجالسه يُسرب لي بعض المواقف التي لم تذكر في الأخبار و لم تنص عليها اللقاءات او الاتفاقيات..
حدتني بالتفصيل عن خلفيات “مبادرة ريغان” في الثمانينات حين كان سفيراً في الولايات المتحدة وتفاعلها هنا، واتصال الرئاسة الامريكية به ولقاءاته بكبار المسؤولين الامريكيين ورسائله عنها والتي لم تكن تصل الى عمان كما يريدها ان تصل، وصدامه مع وزير الخارجية ومعالي رئيس الوزراء انذاك، وكيف انهم عملوا ضد مهمته، وما توفر له من حصاد، وظلوا يدسون له الى ان جرى استدعاؤه من سفارته.. كانت قراءة “ابو سهل” للأحداث مختلفة وكان يرى كيف يختزل المسؤولون الخائفون المشاريع ويشوهونها لتتناسب مع قدراتهم المتواضعة، وفهمهم البعيد عن الاختصاص.. كان كل همّه ان تصل رسائله الى الملك ولذا عمل على ان يقفز عن مرجعيات الخارجية وأحياناً عن موقع رئيس الوزراء، ولكنه ومع ذلك لم يكن يأمن من هؤلاء ودسهم ووشاياتهم.. وهو يعتقد ان الاردن من خلالهم ضيع الكثير من الفرص و فقد الكثير من الارباح السياسية..
” أبو سهل” لم يكن سهلاً في مواقفه حين يتعلق الامر ببلده ومصالحها، وكان لا يصغي الى الذين ظلوا يبيعون المواقف بالقطاعي، ولذا كادوا له وقدموا الفاتورة مليئة بالسلبيات وقد دفعها بالكامل حين انقضوا عليه وتخلصوا من ما كان يعنيه من امكانيات كبيرة وثقل.. فقد انفض الكثيرون من حوله وربما اقربهم اليه ايضا..
لقد عاند “ابو سهل” الأمريكان بعد ان خبرهم واصبح على دراية بتفكيرهم حين عقد جلسة البرلمان الاردني والعراقي المشتركة على الحدود بين الاردن والعراق في طريبيل اثناء الحصار الجائر للعراق، وقد قامت عليه الدنيا ولم تقعد.
وعاند الاسرائيليين حين زار القدس بدون اذنهم ورفض المرور عبر الحاجز الاسرائيلي أو قبول مرافقيهم، وقد رافقه في رحلة القدس اللواء جبريل الرجوب ووفر له الحماية في جولته.. وعاند الاسرائيليين مرة أخرى في الخليل حين زارها كرئيس مجلس نوابرفض ان يفتشوه فحاولوا الاعتداء عليه فحمله الفلسطينيون على اكتافهم وساروا به بعيدا عن الحاجز المسلح….
كان فارس الكلمة والمواقف في كل المحافل العربية والاوروبية.. وكانت المحافل تسلمه قيادته تلك المحافل والهيئات حين يكون الاردن شريكا وفاعلا، فقد ظلت كاريزما “ابو سهل” طاغية، فكان في البرلمان العربي قائدا وفي كثير من المنظمات الدولية يحتل الصدارة.. ويبادر لتقديم الرأي المسموع.
كان يستقبل في العواصم كما لو أنه رئيس دولة وقد رأيت ذلك حين رافقته اكثر من رحلة، فقد كان يعتز بأردنيته وملكيّته و بما يمثل منن دور ومهمة….
ظل محمولاً على ثقه النواب في مجالسهم لثلاث دورات يجددون له البيعة، ويختارونه، فقد كان يحافظ على هيبة مجالسهم ويدافع عن اجتهاداتهم ويحجم الحكومات التي تريد النيل من دورهم او تستخف به.. وفي عهده لم تطغى الدولة العميقة على البرلمان ولم يستطع رؤساء الحكومات ان يُغمضوا عيونهم الا بعد موافقة البرلمان وليس قبلها..
كان رقما صعباً في المعادلة الداخلية ولذا كان دور بعضهم ان لا يمكنوه من ان يلعب دوره الذي يميزه.. فلم يُسلم حقيبة سيادية في الداخلية رغم أنه كان رئيسا للأركان ومديرا للامن العام ولم يسلم حقيبة الخارجية رغم انه كان سفيرا ناجحا في الولايات المتحدة الامريكية.
اخترق كثيراً من الخزائن والحصون، ووصل إلى منبع القرارات حيث الرضى او الغضب، وشكل لوبي مناصر لأسناد المواقف الأردنية.. كل ذلك وهو سفير في الولايات المتحدة الامريكية.
لم يمكنوه هنا و إنما أعطوه وزارة الاشغال العامة حين خدمهم ان تخصصه كان في دراسه الهندسة وان بداية حياته العسكرية كان في سلاح المهندسين، فوضعوه في وزارة خدمية وفيها استطاع ان يعيد انتاجها و ان يكشف حجم الترهل والتكسب والبطالة المقنعة فكان على صلة طيبة مع الرئيس الكباريتي…
لم ينصف الرجل وجرى التعتيم عليه في السنوات الأخيرة وحتى حين كان من قبل يرشح للبرلمان كان ينجح بذراعه وقدراته، وقد ضُبطت اكثر من محاولة لإسقاطه في البرلمان نائبا بحجة ان لديه اجندته، وانه كان يدعو للملكية دستورية التيبدأ الدعوة اليها منذ استئناف الحياة النيابية عام 1989 وتحديدا وبعد وصوله الى البرلمان نائبا، اذ كان يجاهر بذلك ويتحمس له ويطلع الملك الراحل على اهمية ذلك في صيانة العرش والنظام، ولكن اصحاب القراءات المختلفة اوغلو صدر الملك عليه وأعربوا له الجملة بشكل مختلف، وحذروا منه ومن مطامحه التي زعموها… فقد ظل يدعو الى ملكية دستورية والى انتخاب رئيس الوزراء والى برلمان حزبي وقد كتب ذلك اكثر من مرة، وكنت اقرا افكاره التي كان يطلب مني ان اصوغها في حدود رغبته وقد فعلت اكثر من مرة.. دون ان امس افكاره أو اغير فيها..
وفي احدى المرات وفي خطاب طويل متصل إمام إحدى الحكومات لنيل الثقة وقد كان رئيسا للبرلمان كادت دعوته ان تسقد إحدى الحكومات لان كلمته كانت واضحة في الدعوة الى ملكية دستورية، وقد جرى لوم رئيس الوزراء وكيف سمح له بإلقاء تلك الكلمة والتفاعل معها….
كان يؤمن بالحوار ويبحث عن مناخ مناسب له ولذا أمن بالحياة الحزبية واستظل بالميثاق الوطني وأسس حزب العهد الذي اصبح بعد ضم مجموعة من الاحزاب تحت اسم الوطني الدستوري، الذي آل باسمه لأحد نشطاء الحزب لاحقا الدكتور “احمد الشناق” الذي احتفظ بالاسم بعد ان توجه الباشا أبو سهل لتأسيس “حزب التيار الوطني” الذي يقوده الان الشخصية النشيطة الدكتور صالح ارشيدات….
كان أبو سهل شخصية وطنية اردنية واضحة الملامح صلبة وحين كان اصحاب المواقع التنفيذية المتقدمة يزايدون عليه سرا باسم النظام لانهم لم يكونوا يستطيعون مواجهته علناً، كان يقول لهمجهاراً (أنا النظام) ، أنا الذي اعلن عن مواقفي امام الملك علنا وبشكل حريص قابل للنقاش…
شُنت عليه حروب الكواليس التي لم تنقطع وكان ينتصر بمرارة في كثير من الجولات و لكنه لم يتراجع فسحبت منه النيابة ليفرغ جهده في العينية ثم ينتهي بة المطاف في البيت متقاعدا…
حين مرض عانى طويلاً، في مرضه وتكبد وحده كلفة العلاج الذي بلغ ما يقارب (800) الف دينار، حين نقل الى لندن ليبقى حوالي شهرين في غرف العناية الحثيثة، ولم يفلح في ان تغطي كلفة علاجه وكأنه يسدد فواتير عن فكرة الحزبي ورؤيتة السياسية …
كان ابو سهل جزء أصيل من النظام السياسي الأردني و كان موالياً للملك، وعلى خلاف مع بعض اركان النظام، وحيث كان الصراع ملموسا احيانا في تصادم الرؤية والأفكار…
كان عسكرياً يؤمن بالدولة المدنية وبالحوار وبالحزبية وتداول السلطة على مستوى الحكومات و يرى ضرورة ان يكون للحكومة ولاية عامة مناسبة … كان صديقا للعسكريين بحكم المهنة، فقد كان من اصدقائه المقربين الراحل الشريف(زيد بن شاكر) ، وقد جمعتهما رؤية مشتركة ف العمل والصفات …
وحين يذكر جهاز الامن العام يذكر الباشا عبد الهادي المجالي الذي اعاد انتاج الجهاز وجدده وارسى له هيبة وميزة وانفتاحاً على المجتمع، كما اعاد تأهيل المرافق و خدمة الافراد ووفر بنية اجتماعية ومعيشية مناسبة لهم، كما رعى الكثير من مصالح المنتسبين للجهاز ومازال ضباط الجهاز ممن عاصروه او سمعوا عن دوره يقدرون له ذلك، وكان قد اعاد اصلاح السجون وخاصة سجن السواقة الذي انجز في زمنه… فبنى فيه مدرسة مهنية لتعليم السجناء وجعلهم منتجين و قادرين ان يساهموا في اعالة انفسهم ….
كما اقام نظام الرقابة والسيطرة في الامن العام والذي تكامل فيما بعد حتى غدا الان حالة مميزة في زمن الحواتمة…
ظل ابو سهل مهابا في كل المواقع التي حل فيها وظل رأيه محترما، ورغم محاولات اسدال الستار على دوره واخلائه من الحياة العامة كما لو كان معارضا…
لم اكن اريد ان اثير شجونا او انبه لعيوب او قصور بحقه لولا انه عرفني على مرارة ايامه الاخيرة واستأمنني على الكثير من اسراره التي كنت اتمنى ان يسردها كلها عليّ في كتاب يغطي نشاط اكثر من ستين سنة من عمله العام…
قيل عنة انة احتفى تزويرا بالمليار الأول واشتغلت ماكنة التشويه، لبث تلك الاشاعة ليكتشف من كانوا قريبين منه وهم كثر انه رحل مديوناً، وكان عارضا بيتة للبيع لان البنك الاردني الكويتي ينتظر، فقد تعامل معه البنك بما يليق بمكانته.. وها هو قد رحل وقد دخل المحارب الاستراحة ليكون هناك الفرصة في اعادة قراءة الرجل الذي ظلم في قراءته على المستوى الرسمي وحتى على المستوى الشعبي لدى كثير من الفئات التي قرأته من خلال الاشاعة…
” أبو سهل” عبد الهادي المجالي كان علماً أردنياً مميزاً و شخصية هادئة وفية متسامحة، كان صاحب فكرة، ورجلا عملياً ومثقفا ومحترفا بعسكريته ومتفوقا فيها بأعلى الرتب والأوسمة من اكثر من دولة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة… وتكفي قراءة المتابع للرسائل المتبادلة مع رؤساء الدول والإطلاع على براءات الاوسمة المتنوعة والعديدة لمعرفة من يكون الرجل الذي فقدنا برحيله رجالا في رجل وخسرنا برحيله خسارة لا تعوض فقد غاب أكثر من يقبلون القسمة على جميع الأردنيين، فقد أحبة شمال الاردن كما جنوبه وغربه في فلسطين، كما في شرقه وفي ريفه وبواديه وصحاريه وحتى مدنه…
الباشا عبد الهادي المجالي قصروا معه وسينتبه الاردنيون انهم خسروا برحيله شخصية كانوا دائما بحاجة إليها…. في جمع صفوفهم والدفاع عن مصالحهم بهدوء و بموالاة للملكية وعرشها الأردني الهاشمي الذي ظل يستظل به دائما!!…