القاص: د. محمد عبد الله القواسمة
وصل الباص إلى موقفه الأخير في محطة السيارات، بمدينة الزرقاء. لا أدري، كيف استبدت بي الرغبة في أن أراقب الشيخ، وأعرف ما سيفعله في كتب ذلك الطالب ودفاتره.
نزل من الباص، واتجه مسرعًا إلى ناحية من السوق. تابعته دون أن ينتبه إلي. سار في ممر ضيق بين المحال التجارية، وبسطات الخضار والفواكه. وصل إلى مكتبة لبيع الكتب القديمة والمستخدمة. رحب به بائع الكتب كأنه يعرفه من أيام نوح عليه السلام. قدم إليه الكتب وراح يقلبها، ثم تكلما كما بدا لي عن الكتب، ثم وضع البائع الكتب على طاولة العرض، وألقى بدفتر في سلة القمامة، ثم أخرج من محفظته بعض النقود وناولها للشيخ.
يا لهذا الشيخ التقي!
في هذا الصباح، كنت في الباص المتجه إلى مدينة الزرقاء، في المقعد الأول إلى ناحية النافذة بالقرب من الباب، وبجانبي طالب في كلية الهندسة، التي على الطريق الدائري الذي يمر بالكلية.
امتلأ الباص بالطلاب الذين يدرسون في كلية الهندسة، والجامعات والكليات في مدينة الزرقاء. لم يكتف السائق بما تجمع من ركاب، فتوقف بعد مسافة قصيرة أمام شيخ أشار إليه، لحيته بيضاء طويلة، وعلى وجهه ملامح الوقار والهيبة.
صعد الشيخ واندس بين الركاب. مال الباص فرأيته بجانب مقعدنا. أحس الطالب بالحرج فنهض وطلب منه أن يجلس مكانه. شكره الشيخ، ودعا له بالنجاح والتوفيق، وأن يدخله الله جنات النعيم. وقال على مسمعي:
– شبابنا طيبون، وتبدو التربية السليمة في أخلاقهم وسلوكهم.
اكتفيت بأن حركت رأسي، كنت مهتمًا بمراقبة كلمات الشيخ، وحركاته، وإيماءاته، كأني أضعه في مختبر تحليلي لاكتشاف شخصيته.
راح الشيخ يدعو الشباب الجالسين إلى عمل الخير بأن يُجلسوا في مقاعدهم الطالبات الواقفات؛ لأنهن قاصرات الأضلاع، ضعاف الأجسام. لم يستجب له غير طالب واحد، وسمعت همسات من غيره بأنهن يطالبن بالمساواة، وهذا يناقض ما يطالبن به.
بعد قليل لفت انتباه الشيخ أن الطالب الذي أجلسه يحمل بيديه كتبه ودفاتره، فرجاه بأن يناوله إياها؛ ليحتفظ بها حتى ينزل. قبل الطالب بعد إلحاح، وانهمك في حديث مع زملائه عن الجامعة.
صاح أحدهم:
– تأخرت سيقول لي مدرس العربي: أغلق الباب من الخارج.
ولجوا بالضحك حتى إن الشيخ نفسه أبدى ضيقه.
توقف الباص على مدخل كلية الهندسة، ونزل كثير من الطلاب. بعد أن تحرك الباص رأيت الطالب نفسه يسير بين زملائه باتجاه الكلية؛ نبهت الشيخ، فأجاب بلا اهتمام:
– نسي كتبه! سأتدبر الأمر.
قلت لن يتعذر الوصول إليه، فاسمه، لا شك، على كتبه ودفاتره. نظرنا إلى أغلفة الكتب، قرأنا اسمه على معظمها نديم عبد الغفار. سألته:
– ماذا تنوي فعله؟
كرر إجابته:
– سأتدبر الأمر.
وصل الباص إلى المحطة الأخيرة في مجمع الزرقاء. حدثت نفسي بأن الشيخ سينتقل إلى الباص، الذي يتجه إلى عمان، وسيمر بالكلية، ويبحث عن الطالب، أو أنه سيؤجل الأمر إلى وقت آخر. عجبت أنه اتجه إلى سوق المجمع، وسار أمام المحال التجارية حتى انتهى إلى محل لبيع الكتب المستخدمة.
بعد أن ذهب الرجل جئت إلى البائع حدثته كيف حصل الشيخ على الكتب. وطلبت منه إرجاعها إلى الطالب في الكلية. فرفض وتساءل بسخرية:
– هل اشتريتها من أجل إرجاعها؟
طلبت منه أن يبيعها لي، فاستجاب في الحال، ولكنه أقسم بأنه يبيعها بالمبلغ الذي اشتراها به.
حملت الكتب، واستعدت الدفتر من القمامة، وأسرعت إلى الكلية. سلمتها إلى استعلامات الكلية، وعدت سعيدًا بأني أصلحت ما أفسده ذلك الرجل الذي بعباءة شيخ