زيدون الحديد
تعيش المملكة اليوم أزمة صحية حادة، تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، فمن كان يعتقد أن أزمة التأمين الصحي قد حلت فهو مخطئ بل تم ترحيلها كما يحدث دائما في عدة مواضيع للأسف، حيث أن تفاقم الخلاف بين نقابة الأطباء وشركات التأمين الصحي ليست متعلقة بأي طرف على حدة، بل هي نتيجة للعديد من العوامل الاقتصادية والتنظيمية التي طالما تم تجاهلها.
فالنقابة تطالب بتعديل أجور الأطباء لتواكب الارتفاع المتزايد في تكاليف المعيشة، في حين أن شركات التأمين تواجه صعوبة في تلبية هذه المطالب دون التأثير على أوضاعها المالية، بعد أن أبرمت عقودا تعتمد على تسعيرات كانت سائدة سابقا، لكن في الواقع لا تكمن المشكلة في أي طرف، بل في هيكلية قطاع الصحة نفسه ولنعترف بذلك.
ولنكن منصفين دعونا نفصل وجهة نظر كل طرف كي نفهم القضية بشكل سليم فمن وجهة نظر الأطباء، فالأجر يمثل مصدر رزقهم الأساسي، ومن حقهم أن تكون أجورهم عادلة ومتناسبة مع التكلفة المعيشية المرتفعة، لكن الصورة ليست بهذه البساطة في الواقع، فهناك فئة من الأطباء لا يخضعون لتسعيرة أو غيرها، وهم يشكلون جزءا من المشكلة التي تعيق تنظيم القطاع بشكل شامل، فهذه الفئة تستفيد من وضعية غير شفافة، مما يزيد من تعقيد المسألة.
أما من وجهة نظر شركات التأمين فإنها تسعى إلى الحفاظ على مصالحها في مواجهة مطالب الأطباء بزيادة الأجور، ففي النهاية هذه الشركات أبرمت عقودا مع الأطباء بناء على تسعيرة معينة، وفي حال الزيادة المفاجئة في هذه التسعيرة، فإن ذلك يعني تحولا كبيرا في بنية عقودها والتزاماتها المالية، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية، حيث إن التوازن بين حقوق الأطباء وحماية مصالح شركات التأمين أصبح أمرا بالغ التعقيد.
ومن هنا دعونا نستكشف عمق الأزمة للبحث عن جوهر المشكلة كونه لا يمكن تحميل الأطباء أو شركات التأمين المسؤولية بالكامل، إن الإشكالية الحقيقية تكمن في هيكلية قطاع الصحة نفسه، إذ يعاني هذا القطاع من نقص واضح في التنظيم، ويعتمد على معايير غير شفافة، مما يجعله عرضة للصراعات المستمرة بين مختلف الأطراف، فغياب مظلة تأمينية وطنية وشاملة، وقوة تنظيمية ضابطة للعمل في القطاع، قد أسهم بشكل كبير في تفاقم المشكلة.
واذا أردنا أن نخوض في جوهر المشكلة بشكل أكبر فإنه يمكننا القول إن الأمر لا يقتصر على التسعيرات الطبية فحسب، بل يشمل أيضا غياب آليات رقابة فعالة تضمن حق كل طرف، سواء كان الطبيب أو المريض أو شركة التأمين، في الحصول على خدمات ذات جودة وأسعار معقولة.
لهذا لا يمكننا إغفال دور وزارة الصحة في هذه الأزمة، فهي لا تملك البنية التحتية الكافية لإدارة القطاع الصحي بشكل فعال، خاصة في ما يتعلق بتقديم خدمات الرعاية الأولية، وقد انعكس ضعف الوزارة بشكل واضح في أزمة التأمين الصحي الأخيرة، حيث لم تقدم حلولا فعالة للمشكلة.
فالوزارة بحاجة إلى فهم حقيقي للأزمة ومعرفة عمل قطاع الصحة وكيفية تنظيمه بما يضمن الحقوق ويحافظ على الاستدامة المالية للقطاع، هذا ما افتقدته الوزارة في كثير من الأمور المتعلقة بالقطاع.
ولكي أكون منصفا فإنني أرى أن اليوم، يتم التعامل مع الأزمة بحلول مجتزأة وسطحية، ما سيؤدي بالضرورة إلى استمرار الأزمة بين الأطباء وشركات التأمين، فترحيل الأزمة قد يهدئ الأوضاع بشكل مؤقت، لكنه لن يقدم حلا حقيقيا للقطاع، فنحن بحاجة إلى معالجة جذرية للهيكل التنظيمي لقطاع الصحة، وليس إلى ترحيل للأزمة أو حتى حلول سريعة لا تتعامل مع الأسباب الجوهرية للأزمة.
فالقطاع الصحي بحاجة إلى تنظيم شامل يتجاوز التسعيرات الطبية ولهذا يجب أن تقوم الدولة بإنشاء مظلة تأمينية تشمل جميع المواطنين، مع ضمان توفير الرعاية الصحية المناسبة للجميع، وتوفير هيكل تنظيمي يحمي حقوق الأطباء والمواطنين على حد سواء، وأي محاولة لحل الأزمة من خلال مسارات معزولة ستؤدي في النهاية إلى استمرارية تفاقم الأزمة.
في النهاية، نحن بحاجة إلى تغيير جذري في طريقة إدارة القطاع الصحي، لضمان استدامته وتحقيق العدالة لكافة الأطراف المعنية.