غازي ابوجنيب الفايز
انتهت المئوية الأولى من عمر الدولة الأردنية وبدأت المئوية الثانية، وحملت المئوية الأولى عناوين بارزة تمثلت في البناء والنهضة والعمران والإستقرار، لنجد أننا أمام تحديات المئوية الثانية التي يجب أن تحمل عناوين أكثر عمقاً وتأثيراً في حياة الأردنيين، وهم الذين عانوا كثيراً في المئوية الأولى بجميع مناحيها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والتعليمية والأمنية، لنتجاوز المراحل الواحدة تلو الأخرى، لينهض الوطن من مرحلة البناء إلى مرحلة المراهقة والتي أخذت فترة من حياة الوطن، لنصل في نهاية الأمر إلى مرحلة النضج الفكري والذي يجب أن ينعكس على القرارات السياسية والإقتصادية، وهذا قرار سهل المنال في حال تم تغير الوجوه التي أثرت سلباً على الوطن وبدئنا بالبحث عن الخبرات الكبيرة للمساعدة والمساهمة في عملية النهوض.
لذا فإننا بحاجة إلى خطة إستراتيجية ذات معالم واضحة ومحددة الأهداف والزمن، ولها مراحل تقيمية عديدة تجعلنا نتأكد بأننا نسير على الطريق الصحيح، وهذه الإستراتيجية يجب أن تكون متوسطة المدى لأن الإستراتيجيات السريعة أثبتت فشلها، وطويلة الأمد ظهر أن التلاعب بها شيء سهل وممكن، وبالتالي قد تخرج عن الغاية والهداف الذين وضعت من أجلهما، وعلى هذه الإسترتيجيات أن تهدف لزيادة معدل الرفاة عند الأردنيين وتحمل في محصلتها زيادة التنمية والتقليل من البطالة ومحاولة إنهاء الفقر، لذا أضع أمام الجميع إستراتيجية قادمة لخمس سنوات قد تُنقذ ما يُمكن إنقاذه وتحسين الوضع.
سياسياً
منذ قيام الدولة الأردنية وهي تمارس العمل السياسي الخارجي ضمن نطاق فعال مع الولايات المتحدة وبريطانيا والخليج العربي، وهذه دول تتباين مواقفها الداعمة والرافضة للرغبة وللقرار الأردني حسب مصلحتها ومصلحة حلفائها على اعتبار أن الاردن حليف من الدرجة الثانية أو الثالثة، وكنا نجد صعوبة في التعامل مع ردود فعل هذه الدول مما يوجب على الدولة الأردنية توسيع رقعة المناورة السياسية بإقامة علاقات مميزة مع دول المحور الشرقي من روسيا للصين إلى الهند وإيران، وهذا المربع قد يمنحنا فرصة لفرض القرار الاردني على الفريق السياسي القديم.
وهذا أمر ممكن الحدوث في حال تعيين رئيس وزراء صاحب ولاية عامة قادر على تحديد أولويات الأردن في مجال العلاقات الدولية، ووجود مجلس نواب يملك قراره الشخصي وفوق الجميع الملك الذي يشكل المرجعية للقرار السياسي، وبالتالي يصبح لدينا أكثر من جهة تستطيع أن تطالب بتحديد شكل ومضمون السياسة الخارجية، وهذا أمر سيساهم في الضغط على الدول التي تحتاج الأردن في العديد من القضايا بسبب الموقع الجيوسياسي للأردن، وقدرته العالية في التاثير على دول الجوار.
إقتصادياً
عانى المواطن الاردني من العديد من الأزمات الإقتصادية والتي أدخلت الوطن في نفق مظلم عديد المرات، واستطاع الخروح من هذه الأزمات بفعل المساعدات الخارجية وليس بفعل ثرواته العديدة والمدفونة في باطن الأرض، وهو ما جعل القرار السياسي رهناً بالوضع الإقتصادي، ولم تدرك الحكومات الماضية أهمية موقع الأردن الاقتصادي كبوابة للخليج العربي في اتجاهي الجنوب والشرق، وكمفتاح للقارة الأوروبية عبر الشمال وكسد ومنفذ للتجارة الصهيونية للعالم العربي من الغرب، وبالتالي فإن الأردن قادر على لعب دور إقتصادي هام في حال تخلي الحكومات عن الرغبة بالقليل.
وتحدث العديد من الخبراء في علم الجيولوجيا عن وجود ثروات طبيعية هائلة في الأردن، وهو ما يوجب علينا أن نتخلى عن دورنا القديم والبدء بالبحث عن هذه الثروات من نفط ونحاس وزجاج وغاز واستخراج المياة بحفر الآبار في العديد من المناطق في الأردن، وهذه قرارات ستجعل الأردن ينهض خلال السنوات الخمس القادمة كقوة زراعية وصناعة وتكنولوجيا في ظل تطور هذا القطاع في الأردن مقارنة بالعديد من الدول العربية.
كما على الدولة أن تسهل القيود على الإستثمار الخارجي بغية تحويل الاردن إلى سوق تجاري دولي، بحيث يكون قادراً على استقبال رأس المال العالمي، مستفيداً من جودة اليد العاملة الأردنية والخبرات العالية التي يمتلكها الكثير من أبناء الوطن.
صحياً
يعتبر القطاع الصحي من أبرز القطاعات في الاردن، لكن ظهر أنه يعاني من نقص الخبرات في إدارة المؤسسات الطبية الكبرى وفي مقدمتها وزارة الصحة، والتي يتم إدارتها بطريقة “الفزعة” وهي طريقة غير مبنية على اسس علمية، وظهر الأمر جلياً بعد مائة عام من عمر الدولة الأردنية بقيام العديد من القيادات الأردنية بالسفر للخارج للعلاج، وهذا أمر أربك الموطن وجعله يشعر بأن المنظومة الصحية متهالكة، والغريب ان العرب يلجؤون للأردن للعلاج في وقت يهرب المسؤولون للخارج.
وبالتالي فإن على الحكومات خلال السنوات الخمس القادمة أن تُعيد لهذا القطاع سمعته الطيبة وأهميتة، من خلال منع المسؤولين من العلاج خارج الوطن حتى يتفرغوا للمساعدة في علاج النقص في المنظومة الصحية، والإرتقاء بالمستشفيات التابعة للدولة ودعم القطاع الخاص بخفض قيمة الضرائب، وتسهيل عمليات دخول المرضى بدلاً من إصدار قوانين وأنظمة تتسبب في تعقيد السياحة العلاجية تحت ذرائع واهية وغير منطقية، كما على الدولة العمل على إصدار نظام التأمين الصحي الشامل للاردنيين حتى يشعر المواطن بأن سنوات عمره لها قيمة وأن الوطن للجميع.
تعليمياً
تراجع المستوى التعليمي الأردني في السنوات الأخيرة، ولن تنجح محاولات البعض بتغطية شمس الحقيقة بغربال الأكاذيب، فالتعليم المدرسي يحتاج إلى إعادة تقيم والبحث عن سبل لتطويرة بالإعتماد على التعلمي المدرسي والمشاهدة، لغرس المعلومات في فكر الطلبة بدلاً من الإعتماد على التلقين الذي رفضه ابن خلدون قبل قرون من الزمن، وعلى الحكومة الاهتمام بالمدارس الحكومية والإرتقاء بالتكنولوجيا الخاصة بها حتى تصبح في مصاف المدارس الخاصة التي يدرس فيها أبناء الصفوة ، والتي تجعل غالبية أبناء الشعب يشعرون بالطبقية الفكرية.
وعلى الحكومة خلال السنوات الخمس القادمة أن تركز على عمليات بناء التعليم والإرتقاء بقدرات المعلمين وتحسين أوضاعهم، وهذا أمر في مصلحة الوطن كون المردود سيكون الإرتقاء في فكر الإنسان، وفي مجال التعليم العالي على الدولة أن تكون سنداً لهذا القطاع بتقديم التسهيلات لزيادة الإستثمار في هذا المجال وهو ما سيوفر فرص عمل لابناء الشعب.
الحرية والديموقراطية
قد تكون الأردن الدولة الوحيدة التي لم يُعدم فيها سجين سياسي وهذا أمر إيجابي، لكن جميع تقارير المنظمات الدولية تُشير إلى تراجع حرية الرأي والديموقراطية في الأردن بسبب مجموعة القوانين الصادمة والتي تركز على محاربة حرية الراي والفكر، لذا فنحن بحاجة إلى قوانين ناظمة للحياة السياسية والمجتمعية بحيث تعطي المواطن الحق في نقد أي مؤسسة أو حتى الدولة، دون أن يكون مهدد بالسجن والتوقيف غير القانوني أو المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة التي لا يعترف العالم بقراراتها.
إن أساس الحرية يكون بتشكيل أحزاب وطنية وليس صورية كتلك التي نشاهدها على الساحة الأردنية حالياً، بحيث تملك الحرية في ممارسة نشاطاتها دون ترهيب مما سيسمح للمواطنين بالإنضمام إليها، وهذا ما سيُثري الحركة الحزبية في الأردن لنصل إلى مجلس نواب وحكومة اصحاب مرجعية حزبية، وعلينا استبدال مجلس النواب الناتج من خلال قانون إنتخابي مريض تم تأليفه على طريقة “جاري مندرين”، لذا فنحن بحاجة إلى صياغة قانون إنتخابي يفرز الأفضل في الاردن من أصحاب فكر ورأي.
محاربة الفساد
إن بناء الاردن ليس بالعمل السهل في حال استمرار الفساد والفاسدون بالعبث بمقدرات الوطن، لذا يجب التصدي لهؤلاء من خلال خطة تمر بثلاث مراحل، وتكون البداية بإعلان الحرب على الفساد بشكل شامل ثم الصمود أمام إرتدادات الفاسدين الذين يملكون أذرع متعددة لمواجهة قرار الدولة، وعقب الصمود تبدأ عملية البناء، ولن تنجح محاربة الفساد في حال تقديم خطوة على أخرى بل ستزيد من تغول الفاسدين، لذا يجب أن تكون هذه الخطوات مدروسة من خلال اختيار الأفضل لقيادة هذه العملية التي تحتاج لقوة الشخصية والقدرة على إتخاذ القرار في التوقيت المناسب.
وحتى تنجح العملية بشكل شمولي نحتاج إلى حكومة تكنوقراط، وليس حكومات جغرافية لا ترتقي بعملها لأكثر من عمل أعضاء اللامركزية، على أن تكون هناك قوانين وأنظمة تسمح بحرية الحركة في إتخاذ القرار للوزراء والرقابة عليهم، حتى لا ننتقل من فساد لفساد أعظم بتزاوج السلطة والفساد.
ونحتاج إلى خمس سنوات على الأقل لمحاربة الفساد والتخلص من آثارة على الحياة السياسية التي لوثها المال الأسود في الإنتخابات، والحياة الإقتصادية التي جعلت من السوق الأردني حكراً على مجموعة محددة مرتبطة بعلاقات داخلية تقوم على تقسيم الوطن إلى مزارع خاصة.
الاعتماد على الذات
مخطيء من يعتقد أننا في الاردن غير قادرين على الإعتماد على أنفسنا، فنحن نملك جميع مقومات النهضة من ثروات وخبرات وكفاءات، لكننا لا نملك الرغبة الحقيقية بسبب الضغط الخارجي أو الخوف من صعوبة التجربة، لذا يفضل البعض الإكتفاء فقط على المساعدات الخارجية والقروض التي تُرهق الوطن، فكما ذكرت لدينا من الثروات ما هو قادر على النهوض بأعظم الدول من نفط بشقية النفط الطبيعي والصخر الزيتي والغاز والعديد من الثروات الطبيعية الأخرى، كما لدينا أفضل الأراضي الزراعية والتي تم تخريب متعمد لمجموعة منها وبالذات في الخربة السمراء، لكن أراضي الغور لا زالت قادرة على تزويد الأردن بالغذاء في حال إتباع الطرق الحديثة في الزراعة، كما أن سهول الشمال قادرة على جعل الأردن يكتفي ذاتياً من القمح، وبالتالي نحن قادرون على صناعة مستقبلنا بأيدينا دون الإعتماد على أحد في حال رغبنا بذلك.
الخيارات الاسترتيجية ” طاقة، مياة”
لا يجوز للدولة أن تجعل خياراتها الإستراتيجية رهناً بيد أي دولة أخرى ، كون هذه خيارات وجود وليست قرارات تجارية تابعة لنظام الربح والخسارة، فأصل الأشياء أن نملك قراري الطاقة والمياة، ولا يجوز العبث بهما ولا أن يتحكم بهما أحد، فنحن نعاني من قضية الطاقة لعدم استخراج النفط والغاز المتواجد في الأراضي الأردنية، لذا علينا أن نبحث عن البديل السريع والذي يمكننا من صناعة الطاقة التي نحتاج دون الإعتماد على الاستيراد، وأمامنا خيارات متعددة فإما أن نبادر إلى البحث عن النفط والغاز وهناك دراسات تؤكد وجودهما بكثافة أو نقوم بإستخراج النفط من الصخر الزيتي، والخيار الأخير بإنشاء مفاعل نووي قادر على إنتاج الطاقة وتحلية مياة البحر حتى نتخلص من المعضلة المائية التي تهدد الأردن، كون مصادرنا المائية محكومة بإتفاقيات مع الجانب الصهيوني في الغرب ومع السعودية في الجنوب.
ان السيطرة على الخيارات الإستراتيجية يمنح الوطن قوة في شتى المواضيع السياسية والإقتصادية وعمليات بناء الدولة والنهضة والتنمية، لذا يجب أن يتم إتخاذ قرارات سريعة والعمل عليها في السنوات الخمس القادمة حتى نضمن جودة المستقبل للأجيال القادمة.
التنمية
تعتمد التنمية على ما قبلها من إرتقاء بالنظام السياسي والإقتصادي والتعليمي والصحي ويضاف إليهم البعد المجتمعي الأخلاقي، لكن التنمية تحتاج إلى طاقة ومياة وقوة قرار سياسي وأسواق إقتصادية حتى تنجح، وبالتالي هي ليست قرار منفصل بل هي ناتج عمل جميع أركان الدولة، لذا فإن التنمية هي الجائزة التي نحلم بأن نحصل عليها في السنوات الخمس القادمة في حال تطبيق إستراتيجية نهضوية شاملة مبنية على مصلحة الوطن والمواطن، وتقوم على المكاشفة والشفافية والمراقبة وحرية الراي وتحسين مخرجات التعليم والإهتمام بصحة المواطن.
لذا نجد ان المقياس الحقيقي للتنمية بارتفاع مستوى رفاهية الشعوب، وللإنصاف فإن هذا المقياس لا يصلح لدينا في ظل زيادة حجم الضغوط على المواطنين، بفضل سياسة تكميم الأفواة عن الكلام والطعام بسبب ارتفاع نسبة البطالة والفقر، لنجد أن الاردن بعد المئوية الأولى تأتي في الترتيب فوق المئة في مؤشري السعادة والتنمية، فجئنا عالمياً في الترتيب “101” بمؤشر السعادة و”102″ في التنمية ، وهذا يعني أن جميع الإستراتيجيات السابقة أثبتت فشلها في الإنتقال إلى مربع متطور ومتقدم على صعيد العالم.
وبسبب هذا الترتيب علينا أن نعود لمراجعة الحالة السياسية والإقتصادية والحريات لعلنا نتقدم في سلم الترتيب العالمي ويبدا المواطن الأردني يشعر بالسعادة وينتقل من وصف صاحب الكشرة الدائمة إلى صاحب الحلم والأمل القادم، وهذه أمور ترسمها الدول بخطط منظمة ولا تأتي بالصدفة