د. رعـد محمود التـل
“ينص قانون الدَّين العام بمادته رقم 23 بأنه على الرغم من أي نص مخالف لا يجوز ان يزيد الرصيد القائم للدين العام في أي وقت من الأوقات على (%60) من الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية للسنة الاخيرة التي تتوافر عنها البيانات”
واجهت المالية العامة في الأردن تحديات كبيرة بسبب ارتفاع الدَّين العام، والذي بلغ ذروته عام 1989 بوصوله إلى 189% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن خلال تنفيذ الأردن للإصلاحات الاقتصادية، انخفضت نسبة الدَّين العام إلى 109% في عام 1998. مع استمرار استعراضنا للجانب الاقتصادي لوثيقة “الانتقال الكبير”، يلاحظ أن الأردن حقق نجاحات ملموسة في الإصلاح الاقتصادي ومعالجة مشكلة المديونية الخارجية من خلال تنفيذ إصلاحات اقتصادية خلال الفترة من 1999 إلى 2008، بالتوازي مع استراتيجية إدارة الدَّين الخارجي. شهدت هذه الفترة استقراراً نسبياً في رصيد الدَّين الخارجي، حيث انخفض الدَّين العام من 113% في عام 1999 إلى 58% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، حسب وثيقة “الانتقال الكبير”.
ساهمت صفقة شراء جزء من الدَّين الخارجي من دول نادي باريس بقيمة 2.1 مليار دولار في تخفيض نسبة الدَّين العام إلى 58% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأدنى منذ منتصف الثمانينيات. نتيجة لذلك، انخفضت كلفة خدمة الدَّين العام من 13% في عام 2002 إلى 2.2% في عام 2010. وقد كان الأردن يهدف إلى خفض نسبة الدَّين العام إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2012.
بحسب وثيقة “الانتقال الكبير”، فقد أسهمت الأزمات والصدمات المتتالية في تفاقم الديون الأردنية على مدى السنوات من 2009 إلى 2023، حيث زادت العجز في الموازنات العامة، بدايةً من الأزمة الاقتصادية العالمية التي أوصلت الديون إلى 11.5 مليار دينار في نهاية عام 2010، مما رفع نسبة الديون العامة الداخلية والخارجية إلى 58.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
كما جاءت أزمة الطاقة في عام 2011 لتضيف مزيدًا من التحديات، حيث تفاقمت المشكلة بعد انقطاع الغاز المصري. لم يكن أمام الأردن خيار سوى العودة إلى استخدام المشتقات النفطية لتوليد الكهرباء، مما أدى إلى زيادة كبيرة في تكاليف إنتاج الكهرباء. بلغت الخسائر المتراكمة لشركة الكهرباء نتيجة لذلك حوالي 5 مليارات دينار من الفترة (2011-2014)، حيث لم تغطِّ إيرادات بيع الكهرباء خلال عامي 2011 و2012 سوى أقل من نصف التكاليف، وفي عامي 2013 و2014 حوالي 60% من التكاليف.
بسبب هذه السياسات وحسب “الوثيقة”، ارتفعت مديونية شركة الكهرباء الوطنية وسلطة المياه إلى حوالي 8.7 مليار دينار في أغسطس 2023، إن نسبة الدَّين العام، والتي بلغت 94.4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، كان من الممكن أن تكون حوالي 73% لولا القروض التي اضطرت الحكومة إلى الاستدانة بها خلال الفترة من 2011 إلى 2014، والتي استُخدمت بشكل رئيسي لتغطية فاتورة الكهرباء.
وارتبطت إرتفاع الدَّين العام أيضاً بأزمة لم تكن متوقعة، وهي جائحة «كورونا» التي قادت إلى تراجع النمو الاقتصادي إلى – 1.6 % وتعطُّل معظم القطاعات الاقتصادية؛ فارتفعت المديونية جراء تداعيات الجائحة في السنتين اللاحقتن بنسبة 19 %؛ وفعلياً ارتفعت المديونية من 95 % عام 2019 إلى 111 % من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022 .ومع مواصلة الحكومة الاستدانة لسداد ديون سابقة وتغطية عجز الموازنة، وصل الدين العام الى مستوى قياسي ليبلغ بنهاية مايو الماضي عند نحو 42.5 مليار دينار، أو ما نسبته أكثر من 114% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة.
إن ارتفاع الدَّين العام يرتبط بشكل أساسي بزيادة العجز في الموازنة العامة، والذي ينجم عن زيادة الإنفاق مقارنة بالنمو المحدود في الإيرادات. تُظهر المؤشرات الاقتصادية بحسب وثيقة “الانتقال الكبير” أن الإنفاق العام استمر في الزيادة منذ عام 2013، مما يعني أن التكاليف التشغيلية للقطاع العام في ارتفاع مستمر. لقد وصل الدَّين العام في الأردن إلى مستوى يشكل تحديًا كبيرًا نتيجة التكاليف العالية لخدمة هذا الدَّين، وهي نسبة تفوق بكثير الحد الأقصى الذي ينص عليه قانون الدَّين العام والذي تشير مادته رقم 23 بأنه “على الرغم من أي نص مخالف لا يجوز ان يزيد الرصيد القائم للدين العام في أي وقت من الأوقات على (%60) من الناتج المحلي الاجمالي بالاسعار الجارية للسنة الاخيرة التي تتوافر عنها البيانات”!
لقد بات الوقت ملحاً أكثر بتنفيذ استراتيجية لإدارة الدين العام للتخفيف من حدته، تتضمن نهجاً شاملاً لتحسين إدارة الديون من خلال إعادة هيكلتها والتفاوض على شروط أفضل، وزيادة الإيرادات عبر تحسين النظام الضريبي وتوسيع القاعدة الضريبية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي تقليص الإنفاق الحكومي غير الضروري، وتحفيز النمو الاقتصادي بتشجيع الاستثمار وتحسين بيئة الأعمال، وتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة المالية العامة. كما يتطلب الأمر تنفيذ إصلاحات هيكلية في القطاعات الرئيسية وتعزيز دور القطاع الخاص، إلى جانب التعاون الدولي للحصول على الدعم المالي والفني.