لم يعد الأردن مضطراً لإعادة إنتاج مواقفه الثابتة التي كانت عنواناً للحراك السياسي لعمان منذ تفجر العدوان على الأهل في غزة عشية عملية طوفان الأقصى التي أعلنت عنها كتائب القسام، الذراع العسكري لحركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي، فكان لا بد من سردية سياسية توصل الى أصل القصة، وأصل القصة يؤكد بأن الظلم وازدواجية المعايير، وإدارة الظهر لعملية السلام لتصبح “أشلاء” في ردهات المؤسسات الأممية، ولتصبح من “الماضي” في الذاكرة الدبلوماسية لعواصم صنع القرار، تسبب في تفجر العنف، ورسم هذا المشهد التراجيدي الذي نراه اليوم يتشكّل على الأرض بأبشع الصور وأكثرها ألماً.
وفي القمة العربية الإسلامية الطارئة لبحث الأوضاع المتفجرة في غزة، والتي استضافتها العاصمة السعودية الرياض، عاد جلالة الملك عبدالله الثاني ليؤكد للعالم على ذات الثوابت، بل والقناعات الأردنية تلك، فلم تكن مفاجأة أن نرى مشاهد الدم، ولم تكن مفاجأة أن نرى صاحب الحق ينتفض ليُذَكّر العالم بحقه الذي اعترفوا به بالأمس وتناسوه اليوم، وأتت تلك الهبة بعد تنامي الشعور باليأس، وهو ما كان جلالته قد حذر منه أكثر من مرة ومن على كل المنصات الأممية والدولية المختلفة دون أن يعطي هذا العالم بال لكل تلك التحذيرات، إلى أن أتت “الواقعة” وساعة الحقيقة، ولم يعد بالإمكان إسكات فوهات المدافع وصوت الطائرات وصليات الرصاص!
وزاد جلالة الملك نقاطاً مهمة علّ العالم يصحو، وعلنا يمكن أن ننقذ ما يمكن إنقاذه، فجلالته أكد بأن عقلية “القلعة” التي ترفض أن تسمع إلا صوتها، وتنكر حق الغير في تقرير المصير، وفي الشراكة “الحتمية” التي لا مفر منها، هي من أوصلت الأوضاع في فلسطين المحتلة الى الحالة التي هي عليها اليوم، فترجمة النطق السامي تقول إن إسرائيل، ولو نفّذت كل القرارات الدولية ولم تضرب بها بعرض الحائط، لكنا اليوم في هذه المنطقة ننعم بالسلام، ولَكُنّا مضرب المثل في الوئام على وجه هذه البسيطة، فهذه أرض المقدسات وأتباع كل الديانات السماوية، والتي لا مكان فيها لقتل الأطفال وهدم دور العبادة، وقصف المستشفيات وإراقة الدماء!
وفي خضم كل هذا، ورغم قساوة الظرف، فإن جلالة الملك عاد ليؤكد بأن الأردن سيبقى السند الذي لن يُخيّب ظن الأهل في فلسطين “الجريحة”، وسيبقى يقاتل وينافح من أجل إنصافهم في كل محفل حاملاً لواء عدالة قضيتهم، وسيعمل، وبكل الوسائل، على إغاثتهم تحت كل ظرف مهما عظم ولعل الإعلان عن إنزال جوي جديد يحمل أدوية ومساعدات للمستشفى الأردني في غزة يؤكد ذلك، وإن كانت خطوة استدعاء السفير الأردني من تل أبيب، وتأكيد عدم الرغبة بعودة السفير الإسرائيلي إلى عمان، واشتراط عودته بوقف إطلاق النار، وفوراً، خطوة، فربما سيتبعها خطوات، فعمان لم تعدم كل الوسائل الممكنة لحقن دماء الشعب الفلسطيني ولتحصيل حقه المشروع في إقامة دولته، وإنهاء آخر استعمار عرفه التاريخ السياسي الحديث.
حال لسان جلالة الملك، ومن بعده كل الشعب الأردني، يقول : كفى .. كفى ظلماً، وكفى قتلاً للأشقاء إخوة الدم، وكفى للممارسات الدولية التي لا ترى إلا بعين “الظالم”، وكفى استخفافاً بالقرارات الدولية، وكفى استرخاصاً لدماء الفلسطينيين، وكفى استكباراً وتعجرفاً، فالتاريخ لن يرحم، والتاريخ يقول إن الحق في النهاية هو من سيقول كلمته، ولو بعد حين.