أ.د. زيدان كفافي
خلال نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن العشرين قام باحث استرالي من أصل انجليزي اسمه “سفند هيلمز Svend Helms” بمسوحات وحفريات أثرية في منطقة بادية البازلت الشمالية الشرقية (الحرّة) ، وكشف النقاب فيها عن نظام جمع وتخزين مائي عدّ في حينه الأقدم في العالم، وأرخ لحوالي 5600 سنة من الحاضر. وسيكون هذا النظام موضوع خاطرتنا التالية.
في أواخر تسعينيات القرن الفائت جاء الباحث الياباني “سيميو فوجي Sumio Fujii “إلى جامعة اليرموك في إربد بصحبة المتطوع الياباني حينذاك المدعو هيساهيكو وادا (Hisahiko Wada)، طالباً مشورتي الشخصية في إيجاد منطقة أثرية في الأردن ليدرسها من الناحية الأثرية، فأرشدته للعمل في منطقة صحراء الصوّان (الحماد)، فذهب إلى حوض الجفر كون المنطقة لم تخضع لكثير من الدراسات الأثرية في وقتها.
يعدُّ حوض الجفر الواقع في البادية الجنوبية الشرقية من الأحواض المائية الكبيرة التي كانت مليئة بالمياه قبل حوالي مليوني عام (عصر البلايستوسين)، لكن أمطاره في الوقت الحاضرة شحيحة جداً، إذ يقدر معدل الهطل السنوي عليه بين 50-100 ملم. ويمتاز هذا الحوض بأنه أرضه مغطاة بالحجارة الصوانية ، وتتخلله مجموعة من القيعان، ومناخه صحراوي جاف، وغطائه النباتي ضعيف. وبناء عليه لم يبني فيه الناس مستقرات بشرية ثابتة على الدوام، عدا مدينة معان وبلدة الجفر في الوقت الحاضر. وبناء عليه لم يحظى الحوض إلاّ بالقليل من الدراسات الأثرية.
من المعلوم أن البعثة الألمانية الجيولوجية التي زارت الحوض في ستينيات القرن الفائت جمعت أدوات حجرية من الحوض تعود للعصر الحجري القديم، لكن تحريات الياباني فوجي الأثرية كشفت عن نتائج جديدة. بدأ سيميو فوجي أعمال ميدانية أثرية في هذا الحوض اعتباراً من عام 1997م. أثناء المسوحات الأثرية في الحوض تم التعرف في عام 2001 على موقع أبو طليحة، وبدأت التنقيبات في الموقع عام 2005م. كشفت التنقيبات الأثرية على أن الناس الرعاة استقروا في بؤر استيطانية في المنطقة اعتباراً من فترة العصر الحجري الحديث قبل الفخار ب المتوسط (Middle Pre-Pottery Neolithic B)أي من حوالي 7500- 6500 قبل الميلاد، وبقوا فيها خلال الفترة اللاحقة أي في العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب الأخير (Late Pre-Pottery Neolithic B)، الفترة بين حوالي 6500 – 6000 قبل الميلاد . وقد أطلق فوجي على سكان المنطقة خلال فترتي العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب اسم “الرعاة الزراعيون Agro- Pastoralists”. وبنى هؤلاء الناس لأنفسهم مساكن في مناطق على جانبي أودية حوض الجفر أسماها فوجي اسم “بؤر استيطانيةAgro-Pastoralis Outposts “، جاء جزئها السفلي في بعض الأحيان مبني تحت مستوى سطح الأرض (Subterranaean).
مباني بؤرة استيطانية على وادي أبو طليحة
ما يهمنا في هذا المقام فقط هو الحديث حول النظام المائي االذي اكتشفه فوجي على الأودية التي تصب مياهها في حوض الجفر، وتؤرخ لمرحلة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب (أي قبل حوالي 8500 سنة من الحاضر). إذ كتب فوجي أنه تعرف في حوض الجفر والمناطق المحاددة له على سبعة سدود / حواجز مائية (Barrages) وآبار محفورة في الأرض في أودية أبو طليحة (4 حواجز)، الرويشد الشرقي (حاجزان)، والبدع (حاجز واحد). (أنظر الخارطة أدناه) .
(After Fujii 2010: 372, Fig. 1)خارطة تبين أودية حوض الجفر والحواجز المائية المبنية عليها
تشكلت مصادر المياه الدائمة لسكان البؤر الاستيطانية على وادي أبو طليحة من مصدرين: مياه الأودية المجمعة خلف الحواجز، وآبار جمع مياه الأمطار.أما بالنسبة للحواجز ، فقد عثر فوجي على أربعة منها، أحدها رئيسي (الحاجز رقم 1)، وأثنان صغيران بنيا على وادي فرعي لوادي أبي طليحة. بالنسبة للحاجز رقم 1، فقد بني على شكل حرف “V” اللاتيتني من الحجارة الغفل بطول يبلغ حوالي 120 متراً. وأضاف فوجي أن جسم الحاجز قد بني من مواد ينفذ أو يرشح منها الماء بشكل بطيء جداً؛ أي أن مياه الوادي تتجمع في حوض أمام الحاجز ربما على شكل بركة ماء، ثم تبدأ المياه بالرشح منها بشكل بطيء حتى تنفذ، أي أن المياه التي تجمعت أمام الحاجز تمكث لفترات محدودة فقط، أي ليست دائمة. هذا الأمر يؤدي إلى ظهور مساحات مزروعة بالأعشاب البرية والتي تشكل مراعي للحيوانات، إضافة إلى زراعة المحاصيل الزراعية خاصة الحبوب. ويؤكد المنقب على أن هذا الحاجز المائي قد بني في فترة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار ب المتوسط (حوالي 7500 – 6500 قبل الميلاد) ليخدم بؤرة استيطانية سكنها الرعاة- المزارعين، ووصفها كانت تستخدم للري وظهور المراعي خاصة في فصل الربيع .
أما حاجزي وادي الرويشد الشرقي فقد بنيا في منطقة تبعد حوالي 7 كيلومترات إلى الشمال الغربي من وادي أبو طليحة على وادٍ ينحدر باتجاه الشرق، لكن لم يعثر على أية بؤرة استيطانية بنيت بالقرب منه. ولهذا السبب اقترح فوجي أن هذه االحواجز ربما بنيت للشرب وري مراعي الحيوانات، أي أن أهلها كانوا رعاة متنقلين.
أما الحاجز الذي بني على وادي البدع (Wadi Badda) في حوض الجفر، فقد بني ليخدم مستقر تأسس على الحافة الغربية لحوض الجفر. ولا يزال جدار الحاجز المائي يرتفع لحوالي 1.5متراً، وسمكه حوالي متراً، ومبني من ثلاثة أو أربعة صفوف من الحجارة غير المشذبة. ويذكر فوجي أنه لم يستطع التأكد من تاريخ هذا الحاجز.
إضافة لنظام وادي أبو طليحة المائي، فقد وجد سيميو فوجي أن نفس النجربة قد تكررت في وادي آخر هو وادي القوير (Wadi Quweir 106) الذي يصب في الجهة الشمالية الشرقية من حوض الجفر ، وتم البدء بإجراء تنقيبات أثرية فيه اعتباراً من موسم 2010م.
خاتمة القول، تعددت مصادر تجميع المياه وتخزنها في منطقة حوض الجفر خلال العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار، كما ذكر المنقب أنه لاحظ اختلاف في هذه الطرق بين المنطقة المركزية للحوض وبين أطرافه. وبرأيه أن السبب في هذا يعود إلى أن وسط حوض الجفر أكثر جفافاً من مناطق أطرافه الغربية والتي هي جبلية بطبيعتها وسكنها مزارعون فلاحون في قرى دائمة، وبنوا حواجز بسيطة على الأودية، فقط.
درسٌ تركه لنا الأجداد في تجميع وتخزين مياه الأمطار، والاستفادة منها في زراعة المحاصيل الزراعية وتشكيل مراعي للحيوانات في هذه المنطقة الصحراوية قبل حوالي 9000 عام.
أ.د. زيدان كفافي
عمّان في 14/ 11/ 2022م
مراجع للقراءة
Fujii, Sumio 2006; Wadi Abu Tulayha: A Preliminary Report of the 2005 Spring and Summer Excavation Seasons of the Al-Jafr Basin Prehistoric Project, Phase 2. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 50: 9-31.
Fujii, Sumio 2007a; Wadi Abu Tulayḥa: A Preliminary Reportof the 2006 Summer Field Season of the Jafr Basin Prehistoric Project, Phase 2. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 51: 373- 402.
Fujii, Sumio 2007b; PPNB Barrage Systems at Wadi AbuTulayḥa and Wadi Ar-Ruwayshid Ash-Sharqi: A Preliminary Report of the 2006 Spring Field Season of the Jafr Basin Prehistoric Project, Phase 2. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 51: 403-427.
Fujii, Sumio 2010; Domestication of Runoff Water. Current Evidence and New Pespectives from the Jafr Pastoral Neolithic. Neo-Lithics 2/10: 14-32.