أ.د. زيدان كفافي
يعمل الإنسان على الدوام كل جهده حتى يظهر بأبهى وأحلى وأجمل صورة، وبناء عليه أخذ يجمّل شكله بشتى الوسائل والأساليب، فأحياناً يوشم على جسده، وخاصة الوجه، وفي أحياناً كثيرة كان يصنع المجوهرات من مواد مختلفة علّها تضيف عليه مزيداً من الجمال والوقار. وصناعة المجوهرات والحلي لا تعكس القدرة الفنية عند صانعها فقط، وإنما تدل أيضاً على مهارته، وتفكيره، وتعكس موضوعات وأفكار قد تكون دينية أو اجتماعية، أو غيرها. وتفيد الدراسات من خارج الأردن أن الصيادين الأوائل في صحراء كلهاري بجنوبي افريقيا صنعوا حلياً لهم (أساور وخرز) من بيض النعام قبل حوالي 33000ألف سنة. سنحاول في هذه الخاطرة وبعض الخواطر اللاحقة أن نقتحم هذا الموضوع ، لكن بشكل موجز جداً، علماً أننا نورد في نهاية الخاطرة بعض المراجع المفيدة للمهتم.
عثر في موقع الخرانة رقم 4 في الأردن، ومن الفترة المؤرخة بين حوالي 20000 و 12500 سنة على حلي مصنوعة من الأصداف البحرية. أما في الفترة المؤرخة بين حوالي 12500 و 10500 سنة من الحاضر فقد كشف النقاب في موقع عين الملاحة في سهل مرج ابن عامر ومغارة الواد في فلسطين على حلي مصنوعة من الأصداف البحرية، والمتحجرات المرجانية، والأسنان.
صورة لجمجمة من الفترة الناطوفية من موقع عين الملاحة وضعت عظام على شكل إكليل على جمجمته
خرز من عدة مواقع في فلسطين مؤرخة للفترة الناطوفية (حوالي 12500 – 10500 من الحاضر)
اما في الأردن ومن الفترة الناطوفية فقد عثر في موقع وادي جيلات 13 على خرز مصنوع من رخام ضبعة، بأشكال متعددة.
وحتى تكون معلوماتنا صحيحة ومقبولة، فإن ما نذكره في هذه الخاطرة مستمد من نتائج الحفريات الأثرية التي جرت في مواقع أردنية وفلسطينية بشكل خاص، حيث الهدف من الخواطر التي نكتبها تقديم معلومات للقارئ حول تاريخ هذين البلدين. لن نذهب بعيداً في حديثنا، لكننا سنركز على الحلي والمجوهرات التي صنعها سكان الأردن في العصر الحجري الحديث أولاً ، ثم نستمر في العصور البرونزية والحديدية.
أساور وخلاخيل من موقع بعجة/ البترا (صورة من Hans Georg Gebel)
كشف النقاب في الأردن عن عدد لا بأس به من قرى المزارعين والفلاحين الأوائل (حوالي 10500 – 6500 سنة من الحاضر) مثل خريسان ووادي فينان وعين غزال ووادي شعيب أبو الصوان وبسطة وبعجة . وقد عثر المنقبون في هذه المواقع ، خاصة تلك الواقعة في داخل مدينة البترا أو القريبة منها على دلائل تدل على صناعة الأساور والخلاخيل والخرز فيها، بدلالة العثور على المواد الخام المطلوبة للتصنيع، وحلي غير كاملة التصنيع، وأدوات لثقب الخرز أو حفر الأساور والخلاخيل. وقد صنّعت هذه الحلي في مواقع البترا وما حولها من الحجر الرملي بأنواعه المتعددة على الأغلب ومن الأصداف في أحيان أخرى. كما عثر في موقع بسطة في محافظة معان على خرز مصنوع من حجارة الملاكيت، والعقيق، والفيروز والحجر الرملي والحجر الصابوني. على أي حال ، من يود معرفة المزيد عليه مراجعة ما كتبت الدكتورة ميسون النهار في الكتاب الآتي:
كفافي، زيدان وأبو غنيمه، خالد والنهار، ميسون 2020؛ روائع من فنون ما قبل التاريخ. عمّان: دار الشروق.
ومن الواجب ذكره، أنه تم العثور على خرز مصنوع من رخام ضبعة، وحبيبات من النحاس الخام على شكل خرز.
ولعب الخرز دوراً هاماً في موروث الطب الشعبي في بلاد الشام قبل عدة قرون، وأذكر أنه وفي جبل الخليل (ريف الخليل) بالذات وخلال خمسينيات القرن الفائت اعتقد الناس أن أنواعاً من الخرز قد تشفي من بعض الأمراض، وهنا أذكر الحالتين المرضيتين الآتيتين:
- كان كثير من أطفال الفلاحين وفي موسم لقط التين يصابون برمد العيون، والسبب معروف لأن الأطفال وبعد أن يصحوا مباشرة من النوم يذهبون للقط التين ، وفي العادة عندما يتم قطف ثمار التين خاصة غير الناضجة يخرج منها سائل أبيض اللون (شرى التين)، وحيث أن بعضاً من هؤلاء الأطفال لم يجبروا على غسل وجوههم صباحاً فكانوا يصابون بالرمد. ولعلاج الرمد كان الناس يربطون بشعر أطفالهم خرزة من العقيق (لونها برتقالي) تتدلى من الشعر حتى تصل العين، معتقدين أنها دواء شافياً من رمد العيون. وإن كانت ذاكرتي لا تزال حيّة فقد كانت تسمى الخرزة باسم “بزلة”.
- كانت النساء يوصين من يذهب إلى الحج أن يجلب معه “خرز الكبسه”، ولا زلت أذكر أن لون هذا الخرز كان على الأغلب أخضر اللون، وشكله مكعب. أما فائدته فكانت للمرأة حديثة الولادة، إذ كانت تخاف أن تدخل عليها إمرأة حائض فتكبسها فتنقطع عن انجاب الأطفال. وبناء عليه كانت تضع هذه الخرزات على الأرض وتتخطاها ذهاباً وعودة عدة مرات، وبعدها تتوكل على الله ولا يهمها من دخل عليها من النساء.
مراجع مفيدة:
– النهار، ميسون عبد الغني 2008 “موقع تل أبو الصوان/ العصر الحجري الحديث : نتائج مواسم التنقيب الأثرية الثلاثة الأولى”. المجلة الأردنية للتاريخ والآثار المجلد الثاني العدد الثالث: 172-190. عمان.
– النهار، ميسون 1993؛ الحلي في موقعي عين غزال ووادي شعيب في العصر الحجري الحديث. دراسة تصنيفية، تحليلية، ومقارنة. رسالة ماجستير غير منشورة قدمت لقسم الآثار في جامعة اليرموك.
Edwards P.C., 2013; Visual Representations in Stone and Bone. In: Philip Edwards (ed.): Wadi Hammeh 27, an Early Natufian Settlement at Pella in Jordan: Pp. 287-320. Culture and History of the Ancient Near East 39. Brill: Leiden, and Boston.