كريم الصغير
لا غرو؛ أنّ سويعات مِنْ المشي في شوارع (عمَّان) ليلًا يعتبر فعلًا كُوبرنيكوسيًّا (نسبة إلى العالم نيكولاس كوبرنيكوس)، لأنّك أيُّها القارئ ستحصد حقائق سوسيولوجيّة؛ أنّ المجتمع في الأردن يدور حول المعطيات الاستهلاكيّة كما تدور الأرض حول الشمس، فالضرورات المصلحيّة هي المعيار الموضوعيّ للعلاقات الاجتماعيّة، وأنّ هذه العلاقات هي (أدوتة) للنسّق الاستهلاكيّ الجمعيّ، وحتّى لا نوغل في سبر كنه بُنية الأزمة فنوغر الصدور، فإن البنية الاجتماعيّة الأردنيّة هي بُنية أزميّة الآن، وهذا ما يتبدّى في سلوكيّات الإنسان الأردنيّ الّذي انغمس حتّى أذُنيه في معطيّات العصر الاستهلاكيّ؛ فأضحى الناس في الأردن تماسيح مُفغّرة الأفواه تبتر ما يستلقي تحت أسنانها أو أنيابها.
لم تعد أرصفة (عمَّان) كافيةً للغانيات؛ هذا ما يمكن أَنْ نلاحظهُ بعيد جنوح الشمس إلى المغيب، وسنا القمر يومض لك؛ فتتراءى الحقائق الاجتماعيّة كأوراق الشجر الخريفيّة، وهذه الأرصفةُ تقف عليها الغانيات اللواتي يعتشن من غياهب الليل، فلولا الليل لقرصتهن عقارب الجوع نهارًا. تمشي في شارع آخر فتتناهى إليك أقذع الألفاظ من شخص أحلولكت آفاقه، والقطط بمحاذاته تمزّق أكياس القمامة لعلّها تحظى بعظام أو بقايا لحم، وشخص آخر يشحذُ مستجديًا شوائب العاطفة لدى الآخرين، وسيدة أخرى تهرول إلى منزلها بيدها خبز أطفالها.
أمّا (عمَّان) الأغنياءُ، فغانياتها لا تقفن على الأرصفة، ورائحةُ العطور تفحّ مستجلبةً إيّاك إلى أمكنة تشعر أنّها لا تتواءم مع شحوب الفقر الذي يتشكّل في وجهك، أو هندامك الّذي يستطيع هؤلاء الأغنياء في (عبدون) أو (دابوق) أَنْ يصطادونك من رثاثته، ويعرفون أنّك تجوب شوارعهم مشدوهًا بحاناتهم وسياراتهم ونسائهم، ثم تؤب إلى جحرك كسيرًا حسيرًا لا تلوي على شيء سوى مضغ الشعارات الّتي استدخلونها في الوعي الجمعي.