وطنا اليوم_عرف الإعلام العلمي العربي مع مطلع الألفية الثانية طفرة نوعية في نشاطه ومحتواه لم يعهدهما من قبل، وتزامن ذلك مع نشأة الاتحاد الدولي والرابطة العربية للإعلاميين العلميين.
عرف الإعلام العلمي العربي مع مطلع الألفية الجديدة طفرة نوعية في نشاطه ومحتواه لم يعهدهما من قبل، وتزامن ذلك مع بدء الاتحاد الدولي للإعلاميين العلميين (World Federation of Science Journalists) نشاطه في العالم العربي، ومع تأسيس الرابطة العربية للإعلاميين العلميين في ديسمبر/كانون الأول 2006.
وأسهم ذلك في تكوين عدد كبير من الصحفيين العرب، مما سمح ببروز مجلات علمية ومواقع إلكترونية متخصصة مع تنظيم مؤتمرات وورش عمل أعطت وهجا للإعلام العلمي العربي.
هذه الحركية واكبها على المستوى الأكاديمي انخراط إعلاميين وإعلاميات في دراسة تخصص الإعلام العلمي في الجامعات، وإنجاز شهادات ماجستير ودكتوراه بعدما فتحت بعض الجامعات العربية أبوابها لهذا النوع من الصحافة الذي لا زال غير متاح على المستوى العالي في كثير من الجامعات العربية.
وهنا برزت 3 باحثات في تخصص الإعلام العلمي، ليصبحن بذلك من الرائدات في هذا المجال الأكاديمي، فضلا عن إسهاماتهن في إثراء المكتبة العربية بمؤلفات وكتب ومنشورات أضافت قيمة للإعلام العلمي العربي.
الدكتورة هند تاج السرّ البلال.. أيقونة الإعلام العلمي في السودان
تعد الإعلامية السودانية هند تاج السرّ البلال من رائدات الإعلام العلمي العربي والسوداني على حد السواء، إذ بدأت مشوارها من أجل ترقية الإعلام العلمي عام 2005 عبر الكتابة الصحفية العميقة التي تناولت أبرز القضايا والمشاكل البيئية التي يواجهها السودان، وهي المسيرة التي توجت عام 2013 بنيل درجة الدكتوراه في الإعلام البيئي من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا.
تقول الإعلامية هند تاج السر -في تصريح للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني- “أنا أول إعلامية في السودان قمت بإبراز دور الإعلام العلمي وأهميته في قضايا التنمية والتقدم، وكنت حريصة على طرح القضايا البيئية للنقاش والتفكير فيها بعمق وإشراك المواطنين في كل ذلك لاعتقادي بأهمية الإعلام العلمي. وموازاة مع ذلك، كنت حريصة على إنهاء دراستي الجامعية والحصول على شهادة الدكتوراه في هذا التخصص لأن ذلك مهم جدا”.
وكان موضوع رسالة الدكتوراه “تناول وسائل الإعلام السودانية لقضايا البيئة بالتطبيق على صحيفتي الرأي العام والسوداني”. وفي ذلك تقول هند تاج السر “البيئة هي أحد فروع العلوم المهمة جدا والتي أصبحت اليوم من القضايا الخطيرة داخل المجتمعات، لأن الدراسة التي قمت بها أثبتت أن غالبية مشاكل السودان الكبرى انطلقت شراراتها من مواضيع بيئية بالدرجة الأولى، خاصة قضية دارفور التي تطورت وأصبحت قضية شائكة؛ أدت إلى تدخلات دولية وإقليمية في الشأن السوداني ما زال الوطن يعاني آثارها حتى الآن”.
وعن واقع الإعلام العلمي في السودان ومستقبله المنتظر، تقول هند تاج السر “للإعلام العلمي في السودان وجود خجول ومستقبل مجهول، كما جاء في عنوان الورشة التدريبية التي قمت بتقديمها في كلية الإعلام بجامعة أم درمان الإسلامية في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وهذا ما أشارت إليه الإحصاءات والدراسات والمقابلات التي قمت بها خلال مسيرتي في هذا المجال، إذ وجدت أن نسبة حضور الجانب العلمي في البرامج الإعلامية لا يتعدى 2%”.
وأوضحت هند أنه “لا زالت المواضيع السياسية والرياضية وأخبار الفن والجريمة اليوم مهيمنة على الإعلام في السودان، رغم أن الخرطوم كانت عاصمة لانطلاقة الإعلام العلمي العربي، إذ أوصى المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم المنعقد في الخرطوم في ديسمبر/كانون الأول 1985 بدعوة وسائل الإعلام إلى تبسيط العلوم وعرضها لتكون مفهومة للجمهور، وأن تهتم بنشر آخر المكتشفات العلمية والتطور العلمي وآفاقه المقبلة، إلا أن الواقع كان مخيبا جدا للآمال في هذه القضية المهمة والحساسة”.
وللدكتورة هند تاج السر عدة مؤلفات في تخصص الإعلام العلمي، وكان أول مؤلف لها كتاب “الإعلام العلمي في السودان.. الفريضة الغائبة” الصادر عام 2009، الذي تعدّه “خطوة أولية نحو ميلاد إعلام علمي سوداني وهمسة في أذن المسؤولين عن الحقل الإعلامي السوداني لحثّهم على إعطاء الأهمية التي يستحقها هذا التخصص”.
وبعد نيلها درجة الدكتوراه، أصدرت هند تاج السر عام 2014 كتاب “رياح العلوم تهب على الإعلام”، وأتبعته بعد ذلك بكتاب “رؤية أكثر عمقا” الذي صدر عام 2016، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الصحفية صدرت لها بصحيفة اليوم التالي ضمن عمود “قبل الغروب”، ودقت خلالها ناقوس الخطر في هذا المجال المهم والحساس، وهو علاقة العلوم بالإعلام.
ثم جاء بعد ذلك كتاب “العلم وبناء السدود.. نموذج شراكة بين وحدة تنفيذ السدود والمؤسسات العلمية” الصادر عام 2017، ويحكي قصة قيام السدود في السودان، وكيف عملت وحدة تنفيذ السدود على متابعة ومراقبة هذه المنشآت الحيوية منذ أن كانت فكرة حتى أصبحت إنجازا.
أما آخر أعمالها فكان موسوعة جمعت فيها سيرة أهم وأكبر العلماء في السودان، وعنوانها “موسوعة سفر الحاذقين.. عبقريات علمية سودانية”، وهو مؤلف يقع في نحو 300 صفحة، ويهدف إلى توثيق سيرة علماء السودان، تتويجا لجهودهم وحفاظا على ذاكرتهم.
الإعلامية فتيحة الشرع.. صوت البيئة في الجزائر
بدأت فتيحة الشرع مسيرتها الإعلامية عام 1999 في الإذاعة الجزائرية، وكانت في البداية تغطي كل المواضيع محقّقة ميدانية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى العمل في المجال البيئي والعلمي رغبة منها في عرض مشاكل وقضايا البيئة على المجتمع.
كانت فتيحة الشرع ضمن أبرز الأسماء التي استفادت من تكوين دولي نظّمه الاتحاد الدولي للصحفيين العلميين في دفعته الأولى ضمن مجموعة أشرف عليها الرئيس السابق للرابطة العربية للإعلاميين العلميين الدكتور مجدي سعيد.
وتقوم اليوم فتيحة الشرع بإعداد تحقيقات وتقارير في مجال البيئة، فضلا عن تقديمها برنامج “أوزون” على قناة الإذاعة الوطنية التي تعنى بشؤون البيئة والتنمية، والتي تعد من أكبر البرامج الإذاعية في الجزائر وأكثرها ثراء وتفاعلا من قبل الجمهور.
وتوجت فتيحة الشرع مسيرتها بالحصول على درجة الدكتوراه عام 2019 من المدرسة الوطنية العليا لعلوم الإعلام والاتصال بالعاصمة الجزائرية، لتصبح بذلك أول إعلامية جزائرية تحوز شهادة عليا في الإعلام العلمي.
وكان موضوع تخرجها تحليل الخطاب الإعلامي حول تغير المناخ من خلال تحليل محتوى 3 وسائل إعلامية من 3 لغات مختلفة، وهي جريدة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية، وجريدة الغارديان الإنجليزية، ومجلة البيئة والتنمية العربية.
وأوضحت فتيحة الشرع أن الجزائر كانت الرائدة في إطلاق تخصص الصحافة العلمية، وكان ذلك عام 2008 بجامعة البليدة بالتعاون مع جامعة ليل الفرنسية، وهي التجربة التي أتبعتها جامعة عبد الحميد بن باديس بولاية مستغانم عام 2010، لتأتي تجربة المدرسة الوطنية العليا للصحافة وعلوم الإعلام بوصفها مدرسة قائمة بذاتها.
وفي سؤال عن ضرورة أن يكون الصحفي العلمي ذا تخصص علمي؟ قالت فتيحة الشرع “أنا مع هذا الطرح في عصر أصبح فيه التخصص ضروريا لفهم وتحليل ما يحدث. هذه القناعة تشكلت عندي على معرفة ميدانية واحتكاك بالزملاء، إذ لاحظت أن أصحاب التخصصات العلمية هم الأقدر على ذلك، بل يمكنهم حتى إنتاج أفكار ولهم القدرة على الاستشراف. لكن هناك استثناءات تبهرنا لصحفيين ممارسين وليست لديهم خلفية علمية لكنهم اختاروا مجال الصحافة العلمية عن حبّ وقناعة وإدراك منهم بأهمية ذلك”.
وفضلا عن مقالاتها في مجلة البيئة والتنمية الصادرة عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية المستديمة والوكالة الكندية للأخبار العلمية، لفتيحة الشرع مؤلفات في الأدب، وكتاب في البيئة صدر عن دار العثمانية عام 2014 تحت عنوان “مقالات بيئية من الواقع المعاش”.
كما تحضر فتيحة الشرع لإصدار كتابين؛ الأول حول تاريخ الصحافة العلمية بالجزائر باللغتين العربية والفرنسية، والثاني في مجال البيئة والحفاظ عليها، وهو موجّه للأطفال في شكل قصص مغامرات بهدف التوعية بأهمية البيئة.
الأردنية حنان الكسواني.. الجمع بين الممارسة الإعلامية والتدريس الجامعي
بين الإعلامية فتيحة الشرع والإعلامية الأردنية حنان الكسواني عدة نقاط مشتركة، وربما أهمها مشاركتهما في أول دورة تدريبية نظمها الاتحاد الدولي للإعلاميين العلميين لفائدة الإعلاميين العلميين العرب، حيث التقتا ضمن هذه الدفعة الأولى التي امتدت من 2007 إلى 2009، وفتحت للكثير من الإعلاميين العرب آفاقا واسعة.
تقول حنان الكسواني -للجزيرة نت عبر البريد الإلكتروني- “في بداية مشواري الصحفي كنت متخصصة في المواضيع الصحية التي تعد جانبا مهما في الإعلام العلمي، وبعد التحاقي بدورة الاتحاد الدولي للإعلاميين العلميين نصحني المدير التنفيذي للاتحاد آنذاك بعمل دكتوراه في هذا التخصص، وعملت بنصيحته لما لها من أهمية في باقي مشواري”.
ولأن الجامعات الأردنية لا تؤطر شهادات دكتوراه في الإعلام العلمي، اضطرت حنان الكسواني إلى إنجازها في جامعة القاهرة، وكان موضوع شهادتها إجراء دراسة ميدانية وتحليلية لـ4 قضايا علمية لمعرفة رأي الجمهور الأردني فيها، وهي الطاقة والمياه والصحة والزراعة.
تقول حنان الكسواني -التي أصبحت اليوم أستاذا مساعدا في الجامعة وتجمع بين التدريس والعمل في يومية الغد- “لقد كانت نتائج الدراسة الميدانية التي أجريتها مثيرة جدا، ووجدنا أن الإعلام العلمي يرتب أولويات الجمهور في قضايا البيئة، كما أن له دورا كبيرا في توجيهه وصناعة رأيه، وهذا يعكس أهمية الإعلام العلمي في دعم التنمية، وأيضا وجدنا أن الدراسات الأكاديمية العلمية مهمة جدا لتحديد وتحليل مواقف الجمهور من قضايا البيئة وآليات تحركه وصناعة رأيه”.
وعن واقع الإعلام العلمي في الأردن وفي الوطن العربي تقول حنان الكسواني “الإعلام العربي بصفة عامة يسير ببطء شديد، حيث لم يحرز تطورا كبيرا، وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى قلّة اهتمام الجمهور بالقضايا العلمية مقارنة بالقضايا السياسية والرياضية”.
وأوضحت حنان الكسواني أنه لكي يصبح لدينا جمهور مهتم بالعلوم لا بد أن نهتم بتربية النشء تربية علمية ونزرع في قلوب أطفالنا محبة بالعلوم وشغفها، وهذا ما يضمن لنا صعود جيل جديد شغوف بالعلوم وواع بأهمية البحث العلمي.
وبالموازاة مع تربية النشء تربية علمية، ترى حنان الكسواني أن من الضروري تكوين صحفيين علميين في الجامعات، وقالت “أنا أعرف أنه ليس كل الجامعات لديها تخصص في الإعلام العلمي، لكنني أعتقد أن من الضروري الاستثمار في ذلك، لأن التكوين الجامعي هو الكفيل بإنشاء جيل جديد من المتخصصين في الإعلام العلمي”.
كما أبرزت محدثتنا ضرورة أن يركّز الإعلاميون في عملهم على التحقيقات الصحفية، وقالت “إجراء تحقيقات صحفية في قضايا البيئة والعلوم التي تهمّ الرأي العام من شأنه أن يعزز العلاقة بين الإعلاميين والجمهور، لأن مثل هذا النوع من الصحافة هو الأقرب إليهم وذلك سيسهم في استقطابهم نحوه”.