وطنا اليوم – أكد سمو الأمير الحسن بن طلال رئيس منتدى الفكر العربي وراعيه، أن الحديث عن الرحلات لا يعني حديثاً للعرض التاريخي في الجانب المعنوي ليس إلا، بقدر ما هو أنسنة التاريخ، من منطلق أن تاريخنا هو تاريخ إنساني يتطلب التعامل معه على هذا الأساس، ومن خلال نقاط التغيير التي تمكننا من استلال الرحلات على درب الأفكار عبر دروب القوافل ودرب الحرير ودروب الحج وما إلى ذلك .
وقال سموه في اللقاء الذي نظمه منتدى الفكر العربي عن بُعد باستخدام تقنية الاتصال المرئي، يوم الأربعاء 7/10/2020، تحت عنوان ‘الرحلات والعلاقات الحضارية بين المشرق والمغرب’: إن ذلك يدعونا إلى إحياء الترابط الحضاري العربي، وجسر الانهدام الكبير بين التاريخ والطبيعة الإنسانية، بحيث نستلهم من تراث الرحلات من المغرب إلى المشرق، ومنها رحلات الحج، ما يمكننا من إعادة بناء آصرة فكرية بينهما بالوقوف على حقائق جديدة في البحث عن مفهوم التعددية، واحترام المذاهب التي يجاور أتباعها في الحرمين، وتطعيم مناهجنا بشيء جديد يكسر حدّة التباعد الذي فرضته الظروف السياسية .
وتحدث سموه حول دور اللغة في نقل المعارف والعلوم، وفضل الشرق والعرب في ذلك ومترجماتهم من اليونانية وما قدمته شعوب هذه المنطقة من معرفة مطلقة في القوانين والتشريع الذي يعود الفضل فيها إلى الأقدمين من حمورابي وملوك الشرق في الحضارات الشرقية المتعددة، وكذلك ما قدمه العرب في حقل الرياضيات والمنطق الاستنتاجي على سبيل المثال.
ودعا سموه إلى البحث في فضل العرب على الحضارة الغربية بأصوات نابعة من داخل هذه المنطقة؛ مؤكداً أنه آن الأوان لأن نتحدث بلغة توصلنا إلى مفهوم المعرفة المطلقة.
شارك في هذه اللقاء، الذي أداره د.محمد أبوحمور الوزير الأسبق وأمين عام منتدى الفكر العربي، كل من : د.محمد حسام الدين إسماعيل أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة عين شمس ورئيس مجلس إدارة جمعية التراث والفنون التقليدية بالقاهرة، و د.أيوب بن حكيم رئيس مركز تكامل المعارف للدراسات من المغرب، و د.أحمد صبحي الباحث ومفتش الآثار الإسلامية في جامعة عين شمس ووزارة الآثار المصرية، و د.زيدان كفافي أستاذ الآثار ورئيس جامعة اليرموك السابق، و د.محمد هاشم غوشه مدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس، و د.رشأ الخطيب الباحثة في تاريخ الاستشراق والدراسات الأندلسية، و د.نوال الشوابكة أستاذة الأدب الأندلسي والمغربي واللغة العربية وآدابها في الجامعة الأردنية.
وتناول المشاركون في مداخلاتهم الرحلات بوصفها تشكل فهماً لتطور العلاقات بين الشعوب والتنوّع والمشتركات الحضارية، وتبرز دور الشعوب العربية والإسلامية في الحضارة العالمية. كما بيّن بعضهم أن الرحالة المسلمين سبقوا الغرب بتأسيس مدرسة التوثيق الأكاديمي لقراءة النقوش العربية ولا سيما في القدس والشام ومصر، وأشار آخرون إلى أن مسار رحلات الحج المغربية والإفريقية كان يمر بفاس والقدس والقاهرة للتبرك بمزارات مقدسة فيها، وأن كثيراً من رحلات الغربيين إلى البلاد العربية كانت للتعرف على البلاد والناس وليس لدراسة العلاقات الحضارية . كما بينت مداخلات أخرى أن الرحلات العربية اتصلت بسؤال النهضة وأسبابها وبفكرة التقدم ومواجهة الذات والآخر في العصر الحديث، فيما شكلت في عهودها السابقة دعامة من أهم دعائم وحدة الفكر العربيّ وأداة تفاعل داخل الثقافة الواحدة كما بين الثقافات المختلفة .
التفاصيل :
قال الأمين العام لمنتدى الفكر العربي د.محمد أبوحمور في كلمته التقديمية: إن الرحلات عموماً أو ما يطلق عليه ‘عين الجغرافيا المبصرة’ هي من المصادر التاريخية المهمة، لأنها تكشف أعماق الواقع في المناطق التي يرتادها الرحالة . وقد نظر العالم بكثير من التقدير والاعتراف بالفضل للرحالة العرب في تسجيل الأوصاف الدقيقة للبلدان والأمصار والاكتشافات الجغرافية، مثل ما جاء في رحلة ابن بطوطة عن الصين والشرق الأقصى وإفريقيا، ورحلات ابن جبير الأندلسي إلى المشرق العربي، ورحلة ابن فضلان إلى بلاد البلغار والفولجا التي تعد أقدم وصف أجنبي لروسيا كُتب سنة 922م.
وأضاف د.أبوحمور: لقد شهدنا خلال العقود الأخيرة اهتماماً متزايداً بمدونات الرحلات العربية والإسلامية من قبل الباحثين والمؤرخين والمعنيين بالحوارات بين الشعوب وبين الحضارات في الشرق والغرب، لأن الرحلات تشكل جانباً من القواعد والمنطلقات في فهم تطور العلاقات بين الشعوب، ولا سيما في الكشف عن التنوّع الثقافي وجذوره، والمشتركات الحضارية، والمنظورات التاريخية على المستوى الثقافي واللغوي والاجتماعي .
وتحدث أستاذ الآثار الإسلامية في جامعة عين شمس بالقاهرة د.محمد حسام الدين إسماعيل في المدخل الذي قدمه لدراسة الرحلات حول الفوائد الكثيرة المشتملة عليها مدونات رحلات العرب والمسلمين في مجال معرفة الأحوال السياسية والاقتصادية للشعوب، فضلاً عن عادات هذه الشعوب وتقاليدها، ومعرفة الأماكن المقدسة كما جاء في رحلة الأديب والمتصوف عبد الغني النابلسي المسماة ‘الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى الشام ومصر والحجاز’، ودور البواعث الدينية في تنشيط الارتحال والتنقل، والعلاقات الروحية بين هذه الأماكن، وخاصة من خلال رحلات الحج إلى الحجاز والقدس، إضافة إلى تتبع تطور الحياة وأشكالها في البلدان التي وصلها الرحالة، وتأثير الجغرافيا والظواهر الطبيعية على الحياة الإنسانية، والأوصاف الدقيقة لمسارات الرحلات براً وبحراً والطرق والمسالك، مما يشكل تراثاً إنسانياً يبرز دور الشعوب العربية والإسلامية في الحضارة العالمية .
كما أشار د.إسماعيل إلى اتساع نطاق رحلات العرب والمسلمين في عهود امتداد الدولة العربية الإسلامية ابتداءً من العهد الأموي من حدود الصين شرقاً حتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن شمال بحر قزوين وهضبة الأناضول والبحر المتوسط شمالاً حتى وسط إفريقيا وبحر العرب والمحيط الهندي جنوباً في نهاية القرن الثامن الميلادي .
وتناول مدير عام مركز الحسن بن طلال لدراسات القدس المؤرخ د.محمد هاشم غوشه أسبقية العرب والمسلمين في دراسة النقوش قبل المستشرق السويسري ماكس فان برشم الذي جاء القدس سنة 1898 ودوّن النقوش العربية فيها وفي مصر ودمشق، مشيراً إلى أن هؤلاء الرحالة أسسوا لمدرسة حديثة في التوثيق الأكاديمي وقراءة النقوش، فقد قرأ الرحالة أبو بكر الهروي سنة 1170م نقشاً تأسيسياً في قبة الصخرة المشرفة، وكذلك قرأ خالد بن عيسى البلوي نقشاً حجرياً موثقاً في قبة المدرسة المعظمية، وقرأ الرحالة الفارسي ناصر خسرو نقشاً في الرواق الشمالي للمسجد الأقصى يوثق أبعاد المسجد، وأعاد د.غوشه الكشف عن هذا النقش الذي يرقى للفترة الفاطمية خلال أبحاثه الميدانية في المسجد قبل عشرين عاماً .
كما تناول د.غوشه رحلات العرب والمسلمين وأيضاً بعض الأوروبيين إلى بيت المقدس خلال العهود الإسلامية المتأخرة، ومنهم رحالة مغاربة، وسوريون، وأتراك عثمانيون مثل حاجي خليفة صاحب كتاب ‘كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون’، الذي رسم خريطة العالم ودوّن عليها اسم ‘فلسطين’ باللغة العربية خلال وجوده على أرضها في رحلته إلى القدس سنة 1670م. وأوضح أن الأوروبيين طبعوا في القرن التاسع عشر وحده حوالي خمسة آلاف كتاب عن القدس وفلسطين، احتوت على مجموعة كبيرة جداً من كتب الرحلات الأوروبية، والأميركية كذلك .
وأشار رئيس مركز تكامل المعارف للدراسات في الرباط بالمغرب د. أيوب بن حكيم إلى كثرة الرحلات الحجازية من قبل المغاربة الذين مروا بالقدس وزاروها قبل الذهاب إلى الحجاز أو بعده؛ ذاكراً من أشهر هؤلاء البهراني والعياشي والعبدري وابن بطوطة وابن جبير، الذين وصفوا القدس وصفاً تفصيلياً .
كما أشار د.بن حكيم إلى الرحلات الحجازية المغربية الصوفية وبؤر التقديس متخذاً من الرحلات إلى فاس والقاهرة كنماذج لها، مبيناً أن مسلمي ورحالة السنغال ومالي وسيراليون كانوا يزورون مدينة فاس المغربية القديمة للتبرك بضريح الإمام التيجاني في طريقهم إلى الحجاز للحج ؛ لأن معظمهم تيجاني الطريقة . كما أن الليبيين كانوا يذهبون إلى فاس في رحلاتهم باتجاه الحجاز لزيارة آثار الشيخ زورق الفاسي دفين مصراته بليبيا. وهناك نماذج لرحلات إلى أضرحة آل البيت وأولياء الله ولقاء العلماء الأحياء في القاهرة قبل الرحيل إلى الحجاز .
وشارك في اللقاء أستاذ الآثار ورئيس جامعة اليرموك السابق د.زيدان كفافي بمداخلة تطرق فيها إلى دور الرحالة الغربيين بعد انتهاء حروب الفرنجة في العودة إلى بلاد الشرق العربي، لأهداف تبشيرية وغير ذلك من الأهداف، كما أشار إلى دور السلطة العثمانية في الحفاظ على أمن طرق الحج وسلامة الحجاج .
وقال د.كفافي : إن الرحلات التي قام بها الغربيون في العصور الوسطى كانت فردية، وكان هناك رحالة يعلنون إسلامهم فينضمون إلى قافلة الحج ومن خلالها يتعرفون على البلاد وعلى عادات الناس . وكانت هناك بعثات استكشافية تشكَّلت من علماء في تخصصات متعددة مثل حملة نيبور في عام 1761م، كما أن نابليون حمل معه في حملته على مصر وبلاد الشام مجموعة من العلماء والباحثين، وكان الهدف الأساس لكثير من رحلات المستكشفين والرحالة الغربيين هو التعرف على البلاد والناس وليس دراسة العلاقات الحضارية بين مناطقها وأهلها .
وبينت الباحثة في تاريخ الاستشراق والدراسات الأندلسية د.رشأ الخطيب من الأردن أن مدونات الرحلات جنس أدبي يعيد تشكيل الواقع والذات والآخر وفق رؤية الرحالة الخاصة، بما يجعل كل نصٍّ رحلي متفرداً، على الرغم مما يجمعه بغيره من نصوص تنتمي إلى هذا الفن .
وأضافت د.الخطيب أن معظم الرحلات قد استمرت لقرون طويلة محكومة لفكرة انعدام الرغبة في الرحلة خارج العالم الإسلامي، ثم ما لبثت هذه الفكرة أن انقلبت نتيجة عوامل عدة ؛ فما بين مدّ الرحلات في القرون الأولى وازدهار العلوم والمصنفات المرتبطة بها التي بلغت ذروتها – من حيث زخمها وغزارتها – في القرن 7هـ/13م، وما بين جَزْرها الذي ظل يزداد انحساراً، بانكماش الرغبة في الاكتشاف، حتى وصلنا القرن 13هـ/19م الذي اتصلت فيه الرحلات بسؤال النهضة والبحث عن أسبابها، وقد التمستْها في وجهةٍ واحدة في الغالب هي أوروبا، فصارت سؤال النهضة والتقدم ومواجهة الذات والآخر- هو سؤال الرحلة العربية في ثوبها الحديث.
وأوضحت أستاذة الأدب الأندلسي والمغربي واللغة العربية وآدابها في الجامعة الأردنية د.نوال الشوابكة أنّ الاتصال مع الآخر أدّى إلى نقل العديد من الألفاظ العربيّة إلى اللغات الأوروبيّة. ومن جهة أخرى فإنّ الرّحلات من أهم دعائم وحدة الفكر العربيّ في عصور الإسلام حيث كان حج البيت وطلب العلم من أهم دوافع الرّحلات، إضافة إلى الرغبة في الاستطلاع والمشاهدة، وكما أن الرحلات هي واسطة احتكاك بين الثقافات المختلفة فهي أيضاً أداة تفاعل داخل الثقافة الواحدة .
وقالت د.الشوابكة : إن الرّحلات الأندلسيّة والمغربيّة تتجاوز محتواها كمجرد مذكرات أو سير إلى اعتبارها مصدرًا من مصادر التاريخ للمشرق العربيّ فقد جرت في بيئات مشرقيّة كالحجاز والشّام ومصر والعراق، وإشارات ابن جبير ـ على سبيل المثال ـ عن بلاد الشام نجدها تحوي كافة الجوانب المتعلقة بتلك البلاد، كما أن الحجاز يستقطب أكثر الرّحالة ويجذبهم نحوه لأنّه منتهى سفرهم ـ كما يقول ابن خلدون ـ والمدينة يومئذ دار العلم.
وتحدث الباحث ومفتش الآثار الإسلامية بوزارة الآثار بمصر د.أحمد صبحي حول رحلة ابن جبير البلنسي أحد أهم الرحالة الذين طافوا العالم الإسلامي في القرن السادس الهجري، وقد طاف بكلٍ من صقلية ومصر والحجاز والعراق وبلاد الشام، وأورد في كتابه ‘اعتبار الناسك في ذِكر الآثار الكريمة والمناسك’ مشاهداته المتعلقة بالعادات والتقاليد لأهل البلدان التي طاف بها، وتحدث عن مساعدة أهل مكة والمدينة للحجاج .
وأشار د.صبحي إلى مدح ابن جبير الدائم لعدل السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي عاصره ورآه، كما شاهد مواكب الأسرى من الفرنجة بمدينة الاسكندرية بعد تحرير القدس، وأشاد بثبات أهل الشام أمام حملات الفرنجة على بلادهم .