تيك توكر …!

10 أغسطس 2021
تيك توكر …!

د. هيا عاشور

بداية الصيف الثاني من جائحة كورونا في موسكو وتحديدًا في شهر رمضان الماضي،كان هنالك شاب يقف في الشارع على الرصيف المقابل يرفع هاتفه على حامل ..ويرتدي بنطال جينز ممزق، وأوشام متناثرة على ذراعيه عرفت أنه( تيك توكر ) وهذه المهنة استحدثت مؤخرا كوسيله في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (بلوغر،انفلونسر،ميك أب ارتيست)

وبالعربية يُسمى بعضها ،(مؤثر،ناشط..) هنالك مهن حديثة قد تبدو للبعض غريبة،لكنني لا أتذمر من تنوع كل هذه المهن المستحدثه .

كنت أمشي وصديقتي على نفس الرصيف، وكانت قد استئذنتني بمكالمة هاتفية مع خالتها وكانت تتحدث بلغتها التي لا افهمها،وكنت أشبك ذراعي بذراعها وامشي كانني اقودها. كنت صائمة ومتعبة ، سعدت جدًا بحديثها مع خالتها لأنني لم اعد أقوى على الكلام، كل ما كنت افكر به هو دنو وقت آذان المغرب وذلك المطعم الذي نسير اليه لتناول طعام الافطار . وكنتُ أتذكر سمبوسك الجبنة على مائدة الافطار في بيت أهلي كم كان طعمها شهيا.لكني ما عدت أستطيع أن افطر عليها،المقلية المقرمشة اللذيذة التي تهبط بخفةالى المعدة لتبدأ معركة الهضم التي لا ارغب في خوض غمارها حتى لا اكون انا الخاسره.

فأنا بلا مرارة..فقد استأصل الطبيب مرارتي منذ سنوات طويلة،تذكرت يوم كنت بالعيادة في عمان عند طبيب باطني، قال لي يومها بعد الفحص السريري:”هو مبدئيًا مرارة..لكن شو سبب الكريزا هذه واحساس الطعنة،نحتاج الى صورة” ثم أرسلني الى طبيب أخر وذاك الأخر افزعني حين رأيت شاشة تعرض مشهدا لقطعة سوداء مخملية وكأنها سماء ورأيت نجومًا متناثرة،فقلت له:”يا حكيم حلو كتير بطني من الداخل سبحان الله متل السماء والنجوم” فنظر الي وكأنني مجنونة ثم قال:” انتِ مع من اتيتِ؟” قلت :”وحدي ..قال وهو مذهول:” هذه السماء مرارتك المنفجرة وهذه النجوم هي الحصوات التي يجب ان نلتقطها من الجهاز الهضمي لانها لو تحركت واحدة فقط من هذه الحصوات،ستسد القنوات لتصيبك بأوجاع لن تتحمليها!انتِ محتاجه لعملية على الفور!” وبعد شهور طويلة قضيتها أتلوى من الوجع عرفت عندها قيمة المرارة، و بعد ازالة مرارتي بعام دُعيت الى افطار رمضاني بأحد الفنادق، وكان بوفيه مفتوحًا، وتجاوزت بكبرياء ورأس مرفوع ودون أن أبالي السمبوسك بكل أنواعه،حتى وصلت إلى قسم السلطات وبجانب السلطات صادف أن كان بجانبي الطبيب نفسه فسلمت عليه، وقلت:” يا حكيم رجع لي مرارتي انا لا أستطيع أن آكل شيء انا اعاني كثيرا وأنا صائمه فقال عندها ضاحكا :”سيعتاد جسمك بعد وقت على عدم وجودها” متى سيعتاد مرت سنوات و أنا متعبة جدا.

ربما الجمال بالازالة والنقص أبهى..ينمو بداخلك فيروس اللامبالاة ،وكانك دفعت ثمن قلقك مسبقًا،من خلال ثورات من الغضب الداخلي أودت بأحد اعضاءك الداخلية ضحية،ورحلت عنك مرارتك متلفة ومخلفة وراءها جمال لامبالاتك وهدوءك، الذي يضفي على شخصيتك طابع الرومانسية والطمأنينة،وربما سيستمر رحيل اعضاءك واحد تلو الآخر حتى ترحل ذات يوم كُلك.

يا ترى أمي ماذا طبخت اليوم؟

لكن من تركتهم بوطنك يعيشون حياتهم يطبخون ويأكلون ويمارسون طقوسهم الاعتيادية،قاسية عليك تلك الحقيقة التي اعتدتها، لكنها على الأقل مُريحة البال أفضل من أن ترحل راحة بالك هي الأخرى وتفقد صوابك.

ثم خُيّل الي أنني سمعت صوت أمي:”هيا هاي الفاصوليا بزيت منشانك وخبز تازة كمان جابه أبوك منشان واجبك،ومخلالاتك جنبهم فتحت القطرميز منشانك،بدك فتوش!”

يالهي أينها أمي!

أنا سأجن من فرط حنيني لهم خاصه في رمضان.

الشاب (التيك توكر) تقدم نحونا يلاحقه أحدهم بهاتف يصوره يتقدم بسرعة وهو يفتح ذراعيه مرحباً بي.

أعتقدت من بعيد أنه ثمل، وخيل اليّ أن المشهد برمته غير حقيقي،ثم ميزته فبدأت أدفع بصديقتي لجانب الطريق لابتعد عن طريقه ويبتعد عنا، حتى توقفت تمامًا وهو مستمر بالتقدم وفجأة استوعبت صديقتي وهو يقول لي:”حضن واحد من اجل الفيديو “وانا رفعت يدي وعلقتها بالهواء قبل صدره و نظرت بعينيه وقلت بثبات (لا اريد حضنك).

ثم توقفت صديقتي عن التحدث بالهاتف ووبخته “انت غير مسؤول، وباء وكورونا وحالات ووفيات بالالاف وانت ترغب بأحضان من اجل فيديوهات واعجابات! وتركت موسكو كلها واتيت الينا؟ ابتعد فورًا وامسح الفيديو الان قبل أن اطلب الشرطة”

اعتذر الشاب، وأوشك أن يعطيني هاتفه بيدي لامسح الفيديو،لكن صديقتي قالت:” لا تمسكي هاتفه هيا،ارني وانت تمسح الفيديو”

ثم مشينا وهي تخرج أحدٍ بخاخاتها المعقِّمة وترش يدي وتقول:”لمس يدك هيا؟هل لمستِه؟هيا ما بكِ لماذا لم تصرخي عليه من بعيد!”

فقلت:”لا لم يلمس يدي، لماذا اصرخ؟انا ازلت مرارتي عزيزتي منذ زمن طويل لا استطيع أن اغضب!هذا عمله”ثم دار بعدها بيني وبينها حديث أنه اختارني لان شعري غامق وبشرتي سمراء وواضح انني لستُ روسية. فمن الممكن ان تكون ردة فعلي غريبة بعض الشيء مما يزيد من نسب المشاهدة وتدر الأموال عليه. قالت:”أهذا عمل شريف يعتمد عليه؟”

قلت:”هو عمل يسد حاجته ويعيله على ما يبدو”

صديقتي نفسها أصيبت سابقًا بكورونا وكانت ترتدي كمامتين فوق بعضهما ولا تتواصل مع أحد والتقطت العدوى،فأصبح هاجسها بالتعقيم عالي جدا.

بعدها بأسابيع كنا نمشي بوسط موسكو القديمة، اقترب مني شابا (تيك توكر) اخر يجمع قبضة يده باشارة الي أن افعل ذات الحركة لنلمس قبضتينا ببعض،ثم سيفتح قبضته ويكون قد رسم عليها قلب ويخفي داخلها حلوى أو شوكولاتة،وقد كان المشهد بالفعل مفاجئاً ودون أي استعداد مسبق أو معرفة مني سوى أنني رأيت فيديوهات مماثلة سابقًا.

وعلى الفور قالت صديقتي:”هيا انتظري لحظة لأعقم يده والشوكولاته قبل ما تاخدي الشوكولاتة.. اعد تصوير المشهد لو أردت”

ضاعت ابتسامتي العفوية التي كان يريد أن يلتقطها (التيك توكر) واستبدلتها بضحكة على تعابير وجهه

 فقد لجمته الصدمة من ردة فعلها، ولم يجد أي كلمة لتبرير احتفاظه بالشوكولاتة وتغيره خياره عنا، فظل واقفًا لحظات ينظر الينا بغضب ومضى وهو يلوم نفسه على اختيارنا بعد أن خرب المشهد بالكامل..ولم يعد جاذبا لجلب نسب مشاهدات عالية.

#هيا_عاشور

#تيك_توكر

#موسكو