عبدالحميد الهمشري
لا بد لنا كعرب أن نعي و ندرك خطورة ما جرى ترتيبه عالمياً بعد حربين عالميتين ضروسين جرتا في النصف الأول من القرن الماضي وكنا نحن كعرب ومسلمين الغنيمة التي وقعت في الشراك على موائد اللئام بعد أن انتهتا بتشكيل معسكرين ، شرقي تقوده روسيا الشيوعية وغربي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية ، ظل الصراع محتدماً بينهما فيما أطلق عليه ” الحرب الباردة ” ، حسمت أمور هذه الحرب في نهاية المطاف لصالح دول واشنطن وحلفائها بسقوط المعسكر الآخر ، موسكو وحلفائها ، حيث جرى إعادة صياغة المنطقة بنمط جديد يخدم توجهات واشنطن ومن يسير في فلكها بحراك صهيو يورو أمريكي ، هذه الصياغة الجديدة عبثت بأمن واستقرار دول عربية وإسلامية بفوضى وصفت أمريكياً بالخلاقة ، وصولاً للعولمة التي ستعمل وفق ما يزعمون على بناء مجتمع دولي لا يعترف بالحدود بين البشر ، وفي نظام أطلق عليه النظام العالمي الجديد.. فالفوضى الخلاقة مصطلح بان على السطح في العقد الأخير من القرن الماضي وهو يتكون من شقين متناقضين تماماً ويصب في صالح العولمة الرأسمالية ، تجمع ما بين عنوانين متناقضين ، أحدهما تدميري لكيانات مستضعفة يجري العبث بأمنها واستقرارها ترتب شؤونها وفق ما يخدم النظام الرأسمالي المهيمن ، والآخر بنائي يخدم تفرد أمريكا الصهيونية قائدة العالم الغربي لقيادة العالم بأسره وفق النهجين السياسي والاقتصادي الذي يبقيها لردح لا محدود من الزمن سيدة العالم ، فهي خلاقة بالنسبة لمصالح أمريكا خاصة والغرب على العموم ، وهو مصطلح يومئ بوضوح إلى أن على المستضعفين في الأرض من مختلف المجتمعات تجاوز دروب كثيرة وصولاً إلى بر الأمان والاستقرار وعلى العرب القبول بالأمر الواقع والانصياع للإرادة الصهيونية العابثة في المجتمعات العربية والمهيمنة على اقتصادها وأمنها في ظل الواقع المعولم الجديد، وأرى أن في هذا تنفيذ عملي للسياسة الكاوبووية التي أرست هيمنة الرجل الأبيض ومكنته من امتلاك زمام الأمور في كامل مساحة الأرض في العالم المكتشف الجديد بعد حرب إبادة جماعية لسكانها الأصليين ممن أطلقت عليهم الهنود الحمر الذين استبدلتهم بمختطفين من زنوج أفريقيا لتعمر هي الأرض التي أصبحت أمريكية وفق الصيغة التي تبنتها ثورة الاستقلال الأمريكية ، وهذا يعتبر أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الإستراتيجي الأمريكي في التعامل مع القضايا الدولية الذي صيغ بعناية فائقة من قبل نخب أكاديمية وصناع سياسة معروفين ، وهو أقرب إلى مفهوم إدارة الأزمات في المجال الإستراتيجي والذي يؤدي بطبيعة الحال إلى انهيار كلي للنظام يكون العدو المفيد فيه هو من يمكنها من إنجاز هيمنتها على مسرح الأحداث العالمي لتعيد تشكيله من خلال هذا العدو المفيد كمنظمات الإرهاب التي شُكِّلَت أمريكياً لهذا الغرض وذيولها الذين يروجون لذلك من خلال خلخلة البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في مجتمعاتهم والتي تعتمد في الأساس على العبث بالاستقرار الذي يسعى إليه المواطن ، والذي يتأثر بشكل أو بآخر اتساعاً وضيقاً . ما يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع وبالتالي زعزعة الاستقرار السياسي به، في حال انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القدرة على التكُّيف الإيجابي ، ما يفرض عليها التكيف مع الوضع بتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب. .أما في حال كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية ، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين .
وهذه ترتكز على أيديولوجيا أمريكية ماسونية نابعة من مدرستين رئيسيتين : الأولى عنوانها ( نهاية التاريخ ) ، ويقسم فيها العالم ما بين تاريخي تنحره الاضطرابات والحروب بعكس النموذج الديمقراطي الأميركي ، وآخر ما بعد التاريخي ، ديمقراطي ليبرالي وفق النموذج الأمريكي ، الذي يسعى لهدم العوامل القومية والدينية والبنية الاجتماعية لاعتباره إياها معوقات الديمقراطية .. والثانية عنوانها ” صراع الحضارات” التي تكون فيها النزاعات والانقسامات وفق تقديرها أي واشنطن مصدرها حضاري ثقافي، الخطوط الفاصلة بينها المعارك في المستقبل ، وهاتان المدرستان تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة التي تعتبر الحضارة الإسلامية والساحة الشرق أوسطية بالتحديد نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية وفق الرؤية الماسونية ذات الصناعة اليهودية الوليدة من رحم الصهيونية العالمية الملقى على عاتقها إقامة هذا النظام الذي يؤسس لفكرة أن تكون الدولة اليهودية هي السيد المطاع في العالم العربي أولاً بعد تمزيقه لكنتونات وكيانات جغرافية وديمغرافية ، وتطويعه تطبيعياً تتماشى مع استراتيجيتها ، وأهدافها لحكم العالم ككل بنظرية الإلحاد العالمي وما يؤسس لاحقآ لنظرية نهاية التاريخ المزعومة.
وهذا يتماشى مع أقوال زعماء أمريكيين وأوروبيين ممن يدعمون نظرية نهاية التاريخ .. فجورج بوش الأب وضع أولى المفاهيم الغامضة للنظام العالمي الجديد ومن بعده بوش الإبن أوضح بعضها ووضع النقاط على الحروف فتوني بلير…وباراك أوباما وترامب جاءوا ليكملوا مشوار الجميع بتثبيت الوجود الصهيوني على الأرض الفلسطينية وشطب فلسطين والشعب الفلسطيني عن الخارطة العالمية وبناء تحالفات مع المستهدفين العرب بالتحالف معه تقدمة لتقويض مجتمعاتهم وكياناتهم السياسية ، وأي زعيم أمريكي قادم سيسير على ذات الخطى لأنها تنفيذ لاستراتيجيات معدة سلفاً لهذا الحال وعملية نجاحه وفشله يعتمد في الدرجة الأولى على أهل المنطقة من العرب والمسلمين ، فبوش الأب قال بالحرف الواحد : ” تنتظرنا اليوم ساعات حاسمة، في منتصف طريقنا إلى العالم نحن مشغولون بصراع كبير براً وبحراً وجواً، نحن نعلم لماذا ذهبنا إلى هناك، نحن أمريكيون، نحن مجرد جزء من شيء أكبر من ذاتنا، على مدى قرنين، قمنا بإيصال الحرية على أمتنا، واليوم نقود العالم في مواجهة خطر كبير يهدد الإنسانية، ما هو على المحك أكبر من مجرد جعل العالم قرية صغيرة، إنه فكرة عظيمة،، نظام جديد عالمي، حيث تختفي الخلافات بين الأمم، لتحقيق ما اشتاقت له البشرية منذ وقت طويل، الأمن والحرية والديمقراطية، الديمقراطية ستصل إلى كل مكان، أفكار الديمقراطية انتشرت في أوروبا الشرقية وانتصرت أخيراً، واستمرار النضال من أجل الحرية في أماكن أخرى من العالم، كلها أكدت مدى حكمة وذكاء من أسس وطننا أمريكا، اليوم نسعى للانتصار على عدو آخر، الديكتاتورية والقمع،، سنصنع التاريخ بأيدينا ونكتب مستقبل لأولادنا يسوده القانون، قانون واحد للجميع، وليس قانون الغاب، وعندما سننجح، وسننجح بالتأكيد، ستكون الطريق أمامنا مفتوحة لتحقيق هدف أمتنا الأكبر ” ، وهذا ما أكده توني بلير حين قال متحدثآ امام قيادة الناتو قبل أيام من غزو العراق في 4/3/2003 : ” حلف شمال الأطلسي لم يوجد لحماية حدود الدول المنضوية تحت لوائه فقط ، الناتو إنتاج فكرة عظيمة خرجت بعد تجارب ماضية حزينة ومريرة، الناتو وجد لحماية وتأمين النظام العالمي الجديد”.
وكذلك تحدث أوباما بذات المفهوم حيث قال في خطاب ألقاه أمام مجموعة من قادة سلاح الجو الأمريكي عام 2010: “في هذا العالم، جرفتنا مخاطر كبيرة إلى الهاوية، ولذلك لم نعد قادرين على تحمل كلفة البقاء منفصلين عن بعضنا، ليس هنالك أمة واحدة، ليس هنالك أمة أمريكية وأمة ألمانية وأمة روسية،، مهما بلغت عظمتها وقوتها، لن تعيش أمة وتقدر على هزم التحديات التي أمامها وحيدة، إنها مسؤولية المواطن العالمي، التعاون والشراكة بين الأمم والدول غير مقبول بعد اليوم، الطريقة الوحيدة التي تمكننا من البقاء على قيد الحياة هي إلغاء الحدود، الحدود بين الأمم والشعوب والطوائف يجب أن تلغى، بين المواطنين الأمريكيين الأصليين والمهاجرين، بين المسيحيين والمسلمين واليهود، لن نتمكن من الصمود بدون إلغاء الحدود، وهذا هو شكل النظام العالمي الجديد، إنه ينتشر اليوم وأصبحنا قريبين منه جداً، حلمنا قريب من الحقيقة “.
فما تحدث به زعماء أمريكا وبلير عن ذلك ، واضحة المعالم والأهداف للنظام العالمي الجديد المزمع إقامته والذي ينص على أنه لا سيادة لدول، لا أديان، لا وحده مجتمعية، لاحدود ولا سيادة مجتمعية … الخ، توصل في النهاية إلى الأهداف التي يسعون لتنفيذها وتفضي للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية ، فالعولمة وصف لظواهر متعددة يجمعها هدف واحد يجعل العالم متقارباً من خلال وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت والانفتاح المعلوماتي، في ظل القطب الواحد ” أمريكا ” بقيادة صهيونية تسعى لعولمة اقتصادية ، ثقافية وعسكرية ، تحقق مصالحها المجردة من المبادئ وتشكل خطورة عظمى على القيم والأخلاق والهويات عربياً وإسلامياً.. و تكون هادمة للنظام السياسي والمجتمعي العربي والإسلامي بتخطيط ماسوني صهيوني وتنفيذ أمريكي وبذراعها الأخطر منها الإعلامي الذي يفرض على الجميع تعلم وترسيخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الماسوني خاصة في مشرقنا العربي وكيان الأمة ككل