نتنياهو والهيمنة الاقتصادية.. والتسرب التدريجي

14 مارس 2021
نتنياهو والهيمنة الاقتصادية.. والتسرب التدريجي

الدكتور إبراهيم بدران

 

إذا كان هناك من تعريف لعقلية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فهي ببساطة :”عقلية المستعمر في القرن التاسع عشر، الذي يؤمن بإنهاء أو إبادة السكان الأصليين بأي وسيلة”. وإذا كان له من ميزة خاصة فإنها بكلمتين: “المكر والمراوغة”. وقد نجح في الاحتفاظ بمقعد الرئاسة مدة (14) عاما، من خلال سياسة التهويد والإستيطان في إطار من الكذب والخداع والمكر والمراوغة، والتي تغطي أعماله السياسية والإدارية وقراراته العنصرية، وكراهيته المتجذرة للفلسطينيين خصوصا، والعرب عامة.

وفي الجانب السياسي فإنه لا يؤمن بأي حقوق للشعب الفلسطيني وينظر إلى كامل فلسطين وجزء من الأراضي العربية المجاورة، وخاصة في هذه المرحلة من التفكك العربي والإنهزام الذاتي، على أنها الكعكة التي تنتظر الأفواه الإسرائيلية النهمة لالتهامها. أما السلام، ودولة للفلسطينيين، والعودة إلى حدود 1967 أو حتى اكتفاء إسرائيل بما لديها، فهو بالنسبة له ولليمين الإسرائيلي المهيمن على الرأي العام، مجرد حديث وشراء للوقت، لا يعني شيئا، مهما تغيرت الصيغة الكلامية المتعلقة بالموضوع حاليا أو مستقبلا.

ومنذ أكثر من (12) عاما أعلن نتنياهو بكل وضوح، أن حل الصراعات في المنطقة، بما فيها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو حل اقتصادي وليس سياسيا، ولا علاقة له بالمطالبات السياسية التي يصر عليها الفلسطينيون. ونجح في إقناع”الإدارة الأميركية العميقة” بنظريته، بعد أن كان شارون قد مهد لذلك العام 2003، بأن الدخول إلى المنطقة العربية يجب أن يكون اقتصاديا وليس سياسياً. وهذا يتوافق مع رؤية الكثيرين من قادة الحركة الصهيونية.

ويتمسك نتنياهو بهذا الموقف بشكل مبالغ فيه من منظور لديه متعدد الأبعاد: الأول: إن المنطقة العربية قد فشلت في أي تنمية حاسمة، أو تحول اقتصادي حقيقي، واستمر معدل نموها الاقتصادي على مدى عشرات السنين ضئيلا، ومتعثرا. وقد وصل معدل البطالة العربية (15.7 %) وهو ضعف المعدل العالمي، وهجرة العقول والمهارات (34 %) من الهجرة العالمية. إضافة إلى ضعف إمكاناتها في التصنيع والعلم والتكنولوجيا وإنتاج الأسلحة المتقدمة، مقابل التفوق الإسرائيلي في كل منها. الثاني غياب أي استراتيجية وطنية عربية للتحول إلى اقتصاد صناعي تكنولوجي حديث يعزز الاعتماد الذاتي، وخاصة لدى الدول المجاورة والقريبة. هذا إضافة إلى المديونية المتصاعدة والعجز الغذائي وضعف، بل غياب الترابط الاقتصادي العميق بين دول المنطقة، بحيث لا تجد مشروعا عربيا مشتركا ذات قيمة. الثالث: تزايد اعتماد دول المنطقة على القوى الأجنبية الإقليمية والدولية للحماية والمساعدة والمعونات، مما يسهل الضغط عليها ومنعها من الحركة في كل مناسبة. الرابع: إخفاق جميع الدول العربية في التحول الديمقراطي والمشاركة الشعبية وتفعيل الأحزاب، والمؤسسية وسيادة القانون، مما يدفعها للتمترس في خندق الدولة الريعية. الأمر الذي يحرم الدولة والحكومة من الإفادة من الدعم الوطني كقوة داخلية وقدرة متجددة على مواجهة الضغوط.

الخامس: نجاح إسرائيل في “استثمار السياسة الإيرانية” لتكون عاملا قويا في مزيد من اعتماد الدول العربية على الأجنبي، والهرولة إلى الحماية الدولية. والتركيز على استغلال التدخلات الإيرانية المشبوهة في لبنان وسورية والعراق واليمن، كأداة لتمزيق تلك البلدان وتفتيتها. وهي غاية إسرائيلية كبرى وهدف استراتيجي بعيد المدى تسعى له إسرائيل بشتى الوسائل. السادس: تغذية الانقسامات الفلسطينية المزمنة والمؤلمة والمحزنة بشتى الوسائل الصلبة والناعمة، ودعم الحركات المتطرفة في الدول العربية وتزويدها بالمال والمعدات والسلاح، مباشرة ومن خلال وسطاء دوليين و محليين. واستثمار الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي لتعزيز الانقسامات الطائفية والجهوية والدينية والتي تعززها الأحقاد الدفينة نتيجة عشرات السنين من التسلط، وهشاشة الثقافة المجتمعية. السابع:اطمئنان إسرائيل والغرب إلى التفوق الإسرائيلي العسكري والتكنولوجي

والصناعي، وصناعة الأسلحة. فإسرائيل تصدر 3 % من الأسلحة على مستوى العالم، ويقع ترتيبها الثامن بعد إسبانبا مباشرة، إضافة إلى تفوقها بالأمن السيبراني وإمكاناتها في اختراق أنظمة المعلومات لأي منظومة أمنية عربية.

ومن جانب آخر، يرى نتنياهو إن مجرد تبادل الوفود والسلع والخدمات بين العرب وإسرائيل، لا يشكل المدخل الاقتصادي الذي يريد. إنه واليمين الصهيوني يريد أن تكون إسرائيل مهيمنة على مفاصل حيوية في “المركب الاقتصادي الدفاعي”، بحيث لا تستطيع الدولة العربية المعنية الانفكاك منها مستقبلا، ومهما فعلت إسرائيل، ومهما ارتكبت من انتهاكات للحقوق الفلسطينية والعربية، واختراق للقانون الدولي، وإلحاق الأذى بالمواقع المقدسة. إن المفاصل الحيوية التي تعمل عليها إسرائيل خمسة هي: الطاقة، والمياه، واللوجستيك (النقل وتوابعه)، والمال، والقرار الأميركي.

ولذا يجري العمل منذ العام 2005 بهدوء وتواصل وتركيز على المشاريع الكبرى التي من شأنها وضع قبضة إسرائيل على المفاصل الحيوية لأي اقتصاد في المنطقة. فالخليج يهمه النفط والغاز، والأردن تقلقه الطاقة والماء والغذاء، ومصر تبحث عن الزراعة والطاقة والماء، والعراق يرهقه التقسيم الطائفي والقومي، وسورية يفتك بها الإرهاب والاستبداد والتدخل الإقليمي والدولي، ولبنان يدمرها الإنقسام والتدخل، وهي بحاجة الى كل شيء.

وهكذا فقد شجع استمرار الموقف الإيراني (قصدا، أو قصر نظر، وتواطؤا أو تقاطع مصالح) الجانب الإسرائيلي على تقديم شرق المتوسط ليكون مرة واحدة بديلا عن الخليج العربي ومضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس، وبطريقة غير مباشرة بديلاً عن العقبة. وذلك من خلال تحويل مسارات البضائع والنفط والغاز المصدرة من دول الخليج وربما العراق عبر مضيق هرمز تحويلها إلى البحر المتوسط من خلال مدينة حيفا أو أي ميناء قريب. وهذا يتطلب إنشاء خطوط سكة الحديد لنقل البضائع، ومنظومة الأنابيب لنقل النفط والغاز تربط الخليج بالمتوسط عبر السعودية أو العراق والأردن. والعمل جار الآن على السكة الحديد بعد إنجاز خط الغاز للأردن والربط مع خط الغاز العربي مع الأردن ومصر. ومن جانب آخر فإن إسرائيل تقدم نفسها كمرجع عالمي في تحلية مياه البحر والزراعة الذكية، ولذا تطالب إسرائيل بإنشاء محطة تحلية للمياه على البحر الأحمر لتغذية الجنوب، ومقابل ذلك تغذي إسرائيل شمال الأردن بالمياه. وتعمل الآن على تقديم تكنولوجيا زراعية متقدمة لمصر، في عين الوقت الذي تدعم فيه إسرائيل أثيوبيا وتمول الحركات الإرهابية في سيناء. وتعمل إسرائيل حثيثا على إنشاء مركز مالي في الخليج لتمويل المشاريع، وعلى أمل أن يصبح المركز الرئيسي على غرار وول ستريت في نيويورك. وفي نفس الوقت ترسم مع الإدارة الأميركية تفاصيل التسليح للدول العربية.

إن قطار الحل الاقتصادي الهيمني الذي يتحدث عنه نتنياهو قد غادر المحطة الأولى والثانية منذ سنوات، فهل تنبهت الأقطار العربية لهذه المسيرة؟ وهل لديها ضمانات بأن لا يصبح القطار الاقتصادي الذي يسير بعيداً عن الأضواء أداة ابتزاز وترهيب للسكوت عن كل ما ستقوم به إسرائيل؟ ذلك ما قد يحمله المستقبل، وتلك هي المسألة.