بقلم الدكتور خليف الطراونة
في الدول التي تحترم تاريخها وتصون هويتها الوطنية، تبقى المؤسسات العسكرية التعليمية العريقة رموزًا حية للاستقلال والسيادة والكرامة، وهي ليست مجرد مبانٍ أو برامج أكاديمية، بل مصانع للرجال والقادة، ومصادر للإشعاع القيمي والانتماء الوطني، وأدوات استراتيجية لتعزيز الأمن القومي والقوة الناعمة للدولة.
يُعاد بين فترة وأخرى طرح فكرة نقل أو إلغاء الجناح العسكري في جامعة مؤتة، متجاهلين ما يشكله هذا الصرح من عنوان للهوية العسكرية الأردنية، ومؤسسة استراتيجية لصناعة القيادات، ومحطة لإنتاج رأس مال بشري أمني وعسكري مدرب يمثل خط الدفاع الأول عن الدولة الأردنية ومؤسساتها.
ومن الناحية القانونية والرمزية، فإن الجناح العسكري في جامعة مؤتة جاء إلى الوجود بقرار ملكي سامٍ، ليكون منذ تأسيسه في مطلع الثمانينات صرحًا وطنيًا لصناعة الضباط والقادة وحملة شرف الانتماء للجيش العربي والقوات المسلحة الأردنية، مجسدًا إرادة الدولة في بناء مؤسسة تعليمية عسكرية تليق بتاريخ الأردن وجيشه. ومن المهم التأكيد أن الدول التي تحترم تاريخها لا تفرط بمثل هذه المؤسسات العريقة التي تمثل رموزًا سيادية لها. فهل يعقل أن تُقدم بريطانيا على إغلاق كلية سانت هيرست العسكرية الملكية؟ أو أن تغلق الولايات المتحدة كلية ويست بوينت العسكرية؟ هذه الدول تدرك أن مثل هذه المؤسسات ليست مجرد منشآت تعليمية عسكرية، بل هي جزء من الهوية الوطنية وعنوان من عناوين الدولة ورمز من رموز قوتها الناعمة والسيادية في الداخل والخارج.
أما من يختزل النقاش في زاوية الربح والخسارة المالية، فليعلم أن اقتصاديات التعليم العسكري تحمل أبعادًا غير مباشرة وأرباحًا استراتيجية تفوق بكثير العوائد المالية الظاهرة:
1️⃣ الربح المالي المباشر وغير المباشر:
الجناح العسكري يستقبل سنويًا عشرات الطلبة من الدول العربية الشقيقة، يسددون رسومًا كاملة بالدفع المسبق، ويغطون جزءًا كبيرًا من التكاليف التشغيلية، مع وجود كوادر تشغيلية من القوات المسلحة، ما يعني توظيف الموارد الوطنية بكفاءة عالية دون تحميل الدولة أعباء وظيفية زائدة.
2️⃣ الربح الأمني والاستراتيجي:
كل ضابط يتخرج في هذا الصرح يصبح جنديًا في معركة حماية الأردن واستقراره، وهو استثمار في الأمن الوطني واستدامة استقرار الدولة، لا يمكن تعويضه بالأرقام.
3️⃣ الربح السياسي والدبلوماسي:
وجود طلبة عرب في الجناح العسكري يعزز مكانة الأردن إقليميًا، ويخلق روابط مهنية وأخوية مع الدول الشقيقة، حيث يعود هؤلاء الخريجون إلى بلادهم حاملين صورة مشرقة عن الأردن، وهو استثمار طويل المدى في العلاقات الخارجية.
4️⃣ الربح الاجتماعي والقيمي:
هذه المؤسسة تحافظ على الإرث العسكري الوطني، وتغرس في نفوس الأجيال قيم الانضباط والولاء والانتماء، وتربي الضباط الشباب على تحمل المسؤولية، وهو استثمار استراتيجي في رأس المال الاجتماعي للدولة.
5️⃣ الربح الرمزي والهوية الوطنية:
وجود الجناح العسكري هو تأكيد على عراقة الجيش العربي الأردني ودوره التاريخي كحامٍ للشرعية والدستور والاستقلال، وهو جزء من ذاكرة الدولة ومصدر فخر وطني، وغيابه يمثل فراغًا يصعب تعويضه.
لذلك فإن أي محاولة للمساس بهذا الصرح ليست مجرد قرار إداري، بل قضية وطنية استراتيجية تمس الأمن الوطني والهوية الأردنية والقوة الناعمة للدولة، وتداعياتها أكبر بكثير من أي وفورات مالية قد تُسجل في أي ميزانية.
إن حماية هذه المؤسسة واجب وطني وأخلاقي، لأن هدم الرموز لا يقل خطورة عن إضعاف المؤسسات، والتفريط في صروحنا الوطنية يفتح باب التراجع في مشروع الدولة ذاته.
وفي عالم لا يرحم الدول الضعيفة، تبقى الدول التي تصون هويتها وتحمي مؤسساتها العريقة قادرة على الثبات والاستمرار، أما أولئك الذين يستهينون بمقدراتهم الرمزية ومصادر قوتهم الناعمة، فسيدفعون الثمن من استقرارهم ووجودهم.
إن الجناح العسكري في جامعة مؤتة اليوم هو ركيزة وطنية واستثمار في الأمن والاستقرار والهوية الأردنية، وحمايته هي حماية لمستقبل الأردن وسيادته، فلا يجوز المساس به تحت أي ذريعة.