محمود أبو هلال
لم يعد الخلاف السعودي الإماراتي خلافا مكتوما أو محصورا في تفاصيل تكتيكية، بل بدأ يظهر بوضوح في أكثر من ساحة عربية، من اليمن إلى السودان، وصولا إلى الصومال والقرن الإفريقي. هذا الخلاف يتجاوز التباينات في إدارة الملفات، ليعكس رؤيتين متناقضتين لدور كل دولة في النظام الإقليمي الناشئ، ولشكل العلاقة مع “إسرائيل” تحديدا.
يتزامن هذا التصدع مع انتقال “إسرائيل” إلى مرحلة أكثر جرأة في القرن الإفريقي ومحيط البحر الأحمر، سواء عبر الحديث المتزايد عن الاعتراف بأرض الصومال (صومال لاند) ودمجها في منظومة الاتفاقيات الإبراهامية، أو عبر تمددها الأمني غير المعلن في مداخل البحر الأحمر وباب المندب. هذه التحركات لا يمكن فصلها عن الدور الإماراتي المتعاظم في هذه الساحات، والذي بات يُنظر إليه –من قبل خصومه وحلفائه على السواء– باعتباره متقاطعا بعمق مع المصالح “الإسرائيلية”.
منذ سنوات، تبنت أبوظبي سياسة التمدد البحري والموانئ والقواعد، من عدن والمخا إلى عصب وبربرة، تحت عناوين تجارية أو أمنية، لكنها عمليا أسست لشبكة نفوذ تتحكم بعُقد الملاحة في البحر الأحمر وبحر العرب. هذا التمدد، الذي جرى في كثير من الأحيان على حساب حلفاء الرياض المحليين في اليمن، أو بمعزل عن التنسيق معها في السودان والصومال، كشف عن مشروع إماراتي مستقل، لا يضع الأمن القومي السعودي في سلم أولوياته.
في هذا السياق، تصبح “أرض الصومال” حلقة مفصلية. فالاعتراف الإسرائيلي الفعلي بها، حتى وإن لم يُعلن قانونيا، يفتح الباب أمام وجود أمني واستخباراتي إسرائيلي مباشر على الضفة الجنوبية لباب المندب. ويصعب تجاهل أن هذا المسار ما كان ليُطرح لولا البيئة التي وفرتها الإمارات عبر حضورها العميق في موانئ الصومال واليمن، وعبر شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية.
بالنسبة لإسرائيل، فإن هذا التمدد ينسجم مع عقيدتها التاريخية المعروفة بـ”عقيدة الأطراف”، القائمة على تطويق المركز العربي عبر التحالف مع قوى غير عربية أو أطراف هامشية. الجديد اليوم هو أن هذا التطويق لا يتم فقط من خارج الإقليم، بل عبر شركاء عرب فاعلين، يملكون أدوات التنفيذ على الأرض.
أما السعودية، فقد بدت لفترة طويلة وكأنها تتعامل مع هذه التحولات بصبر استراتيجي، أو بتقدير مفاده أن الخلافات مع أبوظبي يمكن احتواؤها. غير أن ما جرى في اليمن خصوصا في المهرة وسقطر ثم في السودان، وأخيرا في الصومال، دفع الرياض إلى إعادة تقييم الموقف. فالسعودية أدركت أن مشروع السيطرة على الممرات البحرية، إذا اكتمل، سيضعها بين فكي كماشة: من الجنوب باب المندب الخاضع لتوازنات معقدة، ومن الشرق مضيق هرمز، ومن الغرب حضور إسرائيلي متقدم يملك القدرة على التعطيل والضغط.
هذا الإدراك يفسر ملامح الانتفاضة السعودية التي تجلت في إعادة التموضع في اليمن، وتشديد الموقف من أي مشاريع انفصالية، ومحاولات لفتح قنوات تنسيق أوسع مع مصر، التي ترى بدورها في هذه التطورات تهديدا مباشرا لقناة السويس ولمكانتها كركيزة للأمن في البحر الأحمر. فدعم انفصال “أرض الصومال” لا يشكل فقط خطرا ملاحيا، بل يضرب مبدأ وحدة الدول، وهو مبدأ حيوي للأمن القومي المصري في ظل صراعها المفتوح مع إثيوبيا.
تَكشّف هذا التصدع على نحو غير مسبوق مع قصف جوي سعودي استهدف معدات إمارتية في مطار المكلا. كذلك قصفا إماراتيا لمواقع قوات الشرعية المدعومة من السعودية في المهرة، في مشهد يشي بأن الخلاف بين الرياض وأبوظبي لم يعد خلاف نفوذ بارد، كما كان سابقا محكوما بأدوات موضعية وسقوف محدودة.
وقد نقول إن ما يجري تحت سطح البحر الأحمر ليس مجرد تنافس نفوذ بين حلفاء، بل صراع على شكل النظام الإقليمي القادم. الإمارات تمضي في مشروع يتقاطع بوضوح مع الاستراتيجية “الإسرائيلية”، بينما وجدت السعودية نفسها مضطرة للانتقال من موقع المتفرج إلى موقع المدافع عن مجالها الحيوي، والدخول في هندسة أمنية للقرن الإفريقي والبحر الأحمر كمجال أمني.
إعادة رسم الخرائط الأمنية والخلاف السعودي الإماراتي يطفو على سطح البحر الأحمر






