د. محمد عبد الله القواسمة
من المعروف أن بلقيس هي ملكة سبأ، التي لم يرد اسمها في القرآن الكريم، إنما ذكرت قصتها مع النبي سليمان عليه السلام في سورة” النمل”، وتبدأ القصة بعدما أرسل النبي سليمان رسالة إلى بلقيس بواسطة هدهد، يدعوها إلى عبادة الله وترك عبادة الشمس، فجمعت حاشيتها وشاورتهم في الأمر، فاتفقوا على إرسال وفد إلى سليمان بهدايا قيمة، لكن سليمان لم يقبل الهدايا، وأبلغ الوفد أن ما يريده أن يؤمنوا جميعهم بالله ورسوله، وإذا رفضوا فليس غير الحرب وتدمير بلادهم. ثم سأل من في مجلسه عمن يأتيه بعرشها، فأجاب عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ:” أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ”. وقَالَ رجل عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ، ويقال إنه آصف بن برخيا، أحد علماء بني إسرائيل، والمقربين من سليمان:” أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ” فأتى بعرش بلقيس في آن واحد دون توقف، واستقر عنده بعد أن كان في مملكةِ سبأ باليمن جنوبي الجزيرة العربية. فَلَمَّا جَاءَتْ بلقيس إلى سليمان في القدس قِيلَ لها” أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ”.
من الواضح، أن التسابق بين العفريت وبين من عنده علم من الكتاب، في المدة الزمانية التي يستغرقها نقل العرش، فزمن الأول يمكن قياسه بخلاف الزمن الثاني، فالزمن، الذي تقع فيه الرؤية هو الزمن نفسه الذي تتحرك فيه العين، لترى فيه الأشياء مهما كانت المسافة بين الرائي والمرئي، ولهذا كان الرجل، الذي عنده علم من الكتاب أقوى علمًا وأَتم في عمله من العفريت.
يرى ابن عربي في كتابه “فصوص الحكم” أنه لم يحدث انتقال من مكان إلى آخر، وأن سليمان ومن في مجلسه لم يروا العرش، بل لم يتخيلوا رؤيته، كما يتضح من قوله تعالى:” فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي” فالذي حدث هو خلق جديد، أي إعدام للعرش وإيجاده بمجلس سليمان في لحظة واحدة، وأن الذي نهض بالعمل هو ذلك الرجل المسمى آصف بن برخيا، الذي يعلم بخصائص الأشياء وأسرارها، ويملك القدرة على التحكم فيها.
ينطلق ابن عربي في تفسيره لنقل عرش بلقيس في كتابه المذكور من فكرة تجدد الأمثال، وهي نظريَّة مهمة عند الصوفيين، وتسمى نظرية التخليق، فالله يخلق كل شيء في العالم ويجدده، فهو في كل آن في خلق جديد. ويستنبط الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي من حادثة نقل عرش بلقيس أن الإنسان العالم أعلى مرتبة من الجن، ويرى أن الرجل استطاع نقل العرش؛ لأنه يملك علمًا من الكتاب، أي يملك ما يدعوه ابن عربي علم تجدد أمثال الأشياء، فالرجل أفنى العرش بعلمه في سبأ، وأُبقى شكلِ ظهوره عند سليمان، وجدد خلقه في إطار فكرة تجدّد أمثال الأشياء. “ما هو إلّا عرش جديد خُلق جديدًا مكان العرش قبله” ويوضح هذا أن بلقيس عندما َرَأت عرشها قالت: ” كَأَنَّهُ هُوَ” ولم تقل “هو”، ثم إن سليمان سألها: “أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟” ولم يقل “أهذا عرشك؟” إذن فإن العرش الذي كان لبلقيس في مدينتها لم يكن هو نفسه الذي أصبح عند سليمان بل هو شبهه.
إن تفسير ابن عربي لنقل عرش بلقيس يلتقي مع ما تقوله نظرية فيزياء الكم، التي تتعامل مع الذرات والجسيمات دون الذرية، فيرى كثير من علماء الفيزياء المشهورين عن علاقات ممكنة بين العلم والتصوّف، وبخاصة فيزياء الكم في طليعتهم العالم الأميركي فريتجوف كابرا، الذي بين في كتابه “طاو الفيزياء” العلاقة بين الفكر العلمي والفلسفة الصوفية، وذهب إلى أن الفيزياء هي وجه آخر للتصوف. فما كان يُظن بانه شطحات من المتصوفة تبين أنه من حقائق العلم، وأن الخبرة التأملية عند المتصوفين يقابلها التفكير العقلاني التحليلي عند العلماء.
إن تفسيرُ ابن عربي لنقل عرش بِلْقِيس ينطبق والنّقل الآني للمادّة في فيزياء الكمّ، فيمكن نقل جسيم ما في حالته الكمومية من مكان إلى آخر دون تحريكه. ويقوم التشابك الكمي بدور حاسم في النقل الآني الكمي. والتشابك الكمي، يعني أن الجسيمات التي من الأصل نفسه، التي كانت متصلةً في السابق، تبقى متصلةً، حتى لو انفصلت وتباعدت في الزمان والمكان، وهذا يعني أن أي حدث لجسيم ما، يؤثر في الجسيمات الأخرى المتشابكة معه. وإن حالة تشابك جسمين أو أكثر، تؤثر حالة كل منهما في حالة الآخر فورًا، وإن قياس أي شيء حول أحد الجسيمين في زوج متشابك، يعرفنا شيئًا عن الجسيم الآخر حالًا، حتى لو كانت المسافة بينهما ملايين السنين الضوئية. ووصف ألبرت أينشتاين هذا الارتباط بـ”الفعل الغريب عن بُعد”.
ويتطلب النقل الآني تفكيك الجسم المادي، ثم إعادة بنائه باستخدام المعلومات الدقيقة عنه ونقله إلى الوجهة المعينة حيث يعاد إنتاجه في الوجهة. وكانت أول عملية نقل آني ناجحة لحالة كمية بواسطة فريق نمساوي بقيادة أنطون زيلينجر عام 1997. حيث تمكن الفريق من نقل المعلومات الكمومية من فوتون، وهو جسيم أولي معني بنقل الأشعة الضوئية إلى فوتون آخر عن طريق تشابك فوتونين تفصل بينهما مسافة، ولكن دون وجود أيّ روابط فيزيائية، وهذا الانتقال الكمومي للمعلومات، أو انتقال الحالة الكمومية من فوتون إلى آخر لا يحدث إلا بوجود التشابك الكمّي.
هكذا يمكن تفسير نقل عرش بلقيس برأيين متقاربين رأي المتصوفة وعلى رأسهم ابن عربي في كتابه “فصوص الحكم”، وعلماء نظرية فيزياء الكم وعلى رأسهم العالم زيلنجر، الذي حصل على جائزة نوبل في الفيزياء الكمية. لكن هل ينجح العلماء في نقل الأشياء والناس من مكان إلى آخر، ويستغنى عن وسائل النقل والحافلات، كما يوحي ما قام به ذلك الرجل، الذي عنده علم من الكتاب؟
من الواضح أن ما زال من المبكر القول، رغم ما قدمته فيزياء الكم من إنجازات تكنولوجية، وتغييرها كثيرًا من المفاهيم والأفكار في المجتمع وجوانب الحياة كافة – بنجاح عملية النقل الآني لتعقيد مسح كميات كبيرة من المعلومات وتشفيرها ونقلها فضلًا عن العقبات التكنولوجية والنظرية الكثيرة.






