د. محمد العزة
شهد الشرق الأوسط عمومًا، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، خلال المئة عام الماضية، تحولات سياسية دراماتيكية، تناوبت خلالها القوى الدولية الكبرى على بسط نفوذها وسيطرتها، مستخدمة أدوات وأساليب استراتيجية متعددة لتحقيق مصالحها. وقد تلاقت تلك المصالح أحيانًا في قواسم مشتركة، وتصادمت أحيانًا أخرى في تضاد واضح، ما دفع هذه القوى إلى نسج تحالفات مباشرة وغير مباشرة مع قوى سياسية فاعلة، من تنظيمات وأحزاب، جرى دعمها لتكون وكيلًا سياسيًا وفكريًا عنها، وربط مصيرها بمصالح تلك القوى.
إدراج الولايات المتحدة الأمريكية لتنظيم الإخوان المسلمين العالمي على قوائم الإرهاب، ولا سيما في مصر والأردن ولبنان، مع وجود نية للتوسع في هذا التصنيف على نطاق أوسع، يمثل إشارة سياسية واضحة لانقلاب أمريكي على حليف تاريخي امتدت العلاقة معه، بشكل غير مباشر، لأكثر من خمسة وسبعين عامًا، قائمة على تبادل المصالح. وهو تطور يؤكد أننا أمام علاقة باتت على صفيح ساخن، تنذر بفضّ الشراكة واقتراب نهايتها.
إن مراجعة التاريخ السياسي لمسارات صعود القوى وأفولها، منذ التأسيس وحتى الانحسار، تكشف أن ذلك جزء من دورة الحياة السياسية الوظيفية. فاليسار السياسي، على سبيل المثال، تعرّض لانشقاقات وولادات قسرية “قيصرية” في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي. واليوم، يتكرر المشهد ذاته مع اليمين السياسي، ممثلًا بالإسلام السياسي، الذي يواجه السيناريو نفسه، وهو ذات التيار الذي أسهم في إضعاف خصمه الأيديولوجي سابقًا، رغم أن اليسار، في ذروة خصومته، حافظ على قدر من شرف الخلاف، ولم يلجأ إلى الأساليب الوصولية التي انتهجها التنظيم.
مرسوم ترامب، مهما بلغت دلالاته، ليس نصًا مقدسًا، لا توراة ولا إنجيلًا ولا قرآنًا، بل هو قرار سياسي محكوم بسياق المصالح الدولية. الأهم من القرار ذاته هو فهم كيفية إدارة اللعبة السياسية. وعلى المستوى الشخصي، نختلف جذريًا مع تنظيم الإخوان المسلمين في الفكر السياسي وفلسفة الممارسة، إلا أن الواجب الوطني يفرض توجيه رسالة صريحة إلى حزب جبهة العمل الإسلامي، مفادها ضرورة إبداء قدر أكبر من المرونة، والقيام بمراجعات حقيقية وجذرية لنهجه السياسي، وتحديد مسار وطني برامجي جديد.
كما أن من الضروري الدفع بقيادات تمتلك خبرة في علوم الإدارة السياسية، لا التنظيمية، لبناء نموذج حزبي أردني خالص، منسجم مع خصوصية الدولة والمجتمع.
ومن خلال التجارب السابقة، وملخص النقاشات الفردية، للأسف، لم تلقَ الرسائل التي وُجّهت صدى حقيقيًا داخل الحزب، رغم كثرتها، ومنها:
-صكوك الغفران عند الإخوان
-حصان طروادة الشرق الأوسط والإخوان
-خطاب الإخوان عفى عنه الزمان
-رصاصات إخوانية من العاصمة اللندنية
-مناورات التنظيم على الساحة وخيارات الإزاحة
-عندما تتخبط جماعة الإخوان وتفقد صوابها
-تيار اليمين الديني السياسي: صراع الاعتدال والاعتزال
-القوى السياسية الأردنية ما بين التنظيمات المهاجرة والبوصلة الحائرة
كان الخيار، للأسف، هو رفض التكيف والبرمجة السياسية، والذهاب نحو الصدام، والاستعداد له بقدر المستطاع، في مسار أقرب إلى الانتحار السياسي. قد يبدو هذا الوصف قاسيًا، لكنه يصدر من منطلق المصلحة الوطنية العامة، وإيمانًا بنهج الدولة الأردنية القائم على التعددية السياسية والديمقراطية، بما تمتاز به من ديناميكية ومرونة في التعامل مع متغيرات كل مرحلة.
قد يعوّل التنظيم على دعم بعض دول الإقليم، مثل إلا أن الواقع يؤكد أن هذه الدول لم تكن يومًا حليفًا عقائديًا للإخوان، بل استخدمت التنظيم كأداة ضمن حسابات المصالح، أو دخلت معه في شراكات ظرفية انتهت اليوم.
وبالعودة إلى تاريخ العمل السياسي الأردني، فإن ما قدمه الأردن لتنظيم الإخوان من احتضان، وحرية تعبير ونشاط، لم تقدمه دول عربية أخرى. ورغم ذلك، وعند اللحظات الفاصلة، حين تم حظر التنظيم في دول عدة، بقي قائمًا في الأردن، إلى أن أقدم بنفسه على كسر آخر خيوط العلاقة مع الدولة، ولم يتبقَّ منها سوى الإطار الحزبي، الذي تتعامل معه الدولة وفق الأسس الدستورية والتشريعية والمؤسسية المعمول بها.
أمنياتنا أن يقرأ الرفاق في حزب جبهة العمل الإسلامي هذا المقال من زاوية إيجابية. فإذا ما أرادوا للدولة الأردنية الثبات على مواقفها تجاه الحياة الحزبية، كما تجلّى في رؤية التحديث السياسي ومخرجاتها، فعليهم الاستعداد لمرحلة تتطلب تكيفًا سياسيًا أعمق، وبراغماتية إيجابية، وانحيازًا صريحًا للموقف الوطني الأردني، تجنبًا للوقوع في ضيق المساحة والوقت، والانحصار داخل ثنائية القرار التي لا ثالث لها.
وتجدر الإشارة إلى المفارقة اللافتة، بأن الحظر لم يشمل تنظيم الإخوان وفروعه في مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 وقطاع غزة.
إن بقاء حزب جبهة العمل الإسلامي داخل مربع الجمود، ومواصلة السلوك النمطي ذاته، الذي يعكس انطباع الارتباط الأحادي بمحور تنظيمي خارجي، مع التمسك بالعناوين نفسها دون تنويع، لن يقيه من آثار التحولات السياسية الجارية. بل إن المرحلة تفرض تجديدًا فكريًا وبرامجيًا، منسجمًا مع مشروع التحول الوطني الديمقراطي الأردني، وصولًا إلى حياة حزبية ناضجة تؤمن بالتعددية، وقادرة على بناء فسيفساء سياسية قائمة على التكامل واحترام الرأي الآخر، بما يخدم المصلحة العامة للدولة، شعبًا وأرضًا وقيادة.
إن إحداث تغييرات جوهرية في فكر وممارسة العمل السياسي، والخروج من أسر العقلية التنظيمية، وتوجيه الجهد كاملًا نحو الشأن الداخلي الأردني، قد يضع اليمين السياسي الأردني في موقع أفضل بكثير. إلا أن الواقع الحالي يسير في الاتجاه المعاكس.
فالنتائج السلبية على الأرض تشير إلى نشاط موجّه نحو أهداف محددة بعناية، لا تعكس سنوات الخبرة والعمل الحزبي، بل تقدم الحزب كواجهة لغطاء يخفي ما تحته. ونحن، كدولة ومجتمع، بحاجة إلى مسطرة حزبية كاملة غير منقوصة، لا تقبل المحو أو الانتقاص من أي من علامات قياسها.
وعند الحاجة، تُحدَّد عناصر هذه المسطرة، حفاظًا على المصلحة العامة، ولتجنب الضرر، أو لضمان البقاء في إطار الخدمة الوطنية أطول وقت ممكن. وإذا ما انكسرت أداة، فلا يعني ذلك توقف العمل، فقد يكون اللجوء إلى بدائل أخرى ضرورة سياسية.
ختامًا، نظرية اينشتاين في ديناميكيا الطاقة الحرارية حفظ الطاقة في الفيزياء ينص على أنه في أي نظام معزول خلال التفاعل داخل النظام، الطاقة لا تستحدث من العدم ولا تنعدم ولكن يمكن تحويلها من شكل لآخر.
الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها.






