وطنا اليوم:بعد 12 عاما من المطاردة، انتهت واحدة من أكثر القضايا إثارة في أوروبا. فقد اعتقل أخيرا العميد السوري خالد الحلبي، بتهم تتعلق بالتعذيب وجرائم حرب ارتكبت في مدينة الرقة السورية بين عامي 2011 و2013.
وحسب تقرير مطول نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، كان الحلبي (62 عاما) عميلا مزدوجا للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) في سوريا، وظل متخفيا في أوروبا لسنوات طويلة بحماية عناصر من الاستخبارات الإسرائيلية والنمساوية، وقد اعتقل أخيرا هذا الشهر.
ولم يكن الحلبي -المعروف بلقب “جلاد الرقة”- وحده في دائرة الاتهام، إذ وُجّهت تهم مماثلة للعقيد مصعب أبو ركبة (53 عاما)، الذي شغل موقعا حساسا في فرع الأمن الجنائي بالرقة. ولم توضح الصحيفة ما إذا كان قد تم احتجازه هو الآخر.
من الرقة إلى باريس
واستعرض مراسلا الصحيفة كارلوتا غال وسعد النصيف خلاصة ما وجدوه عن القضية بعد أن سافرا إلى فيينا وتحدثا مع مسؤولين، وكذلك مع ضحايا الحلبي.
فقبل فراره من سوريا عام 2013، كان الحلبي -وهو من مدينة السويداء وينتمي إلى الطائفة الدرزية– ضابطا في المخابرات السورية، وتولى في 2008 منصب رئيس فرع أمن الدولة رقم 335 في الرقة.
وبعد أن بدأت المظاهرات بالانتشار في أرجاء البلاد في مارس/آذار 2011، شنت أجهزة الأمن السورية -بما في ذلك الفرع 335- حملات اعتقال واستجواب وتعذيب واسعة.
وعندما بدأ الوضع العسكري في الشمال يتغير مع تقدم فصائل المعارضة عام 2013، سارع الحلبي إلى الهروب، وعبر إلى تركيا ثم الأردن، قبل أن يصل إلى باريس حيث اعتُبر آنذاك منشقا يمكنه المساعدة في توثيق جرائم النظام.
الهروب مجددا
ولكن الأدلة التي جمعها محققو “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” غيّرت الصورة، إذ بدؤوا يشكون في أن العميد السابق نفسه أشرف على تعذيب السوريين في فرعه الأمني بالرقة، مما جعله يتحول من شاهد إلى متهم رئيسي، حسب الصحيفة.
وبحسب المدعين، اختفى الحلبي فجأة من باريس في 2015. وكشفت التحقيقات لاحقا أنه هُرّب عبر أوروبا بسيارات يقودها ضباط من المخابرات الإسرائيلية “الموساد” ونظراؤهم من المخابرات النمساوية، حتى وصل إلى فيينا.
هناك، حصل على اللجوء بمساعدة مسؤولين في جهاز المخابرات الداخلي النمساوي، وأُسكن في شقة موّلتها الموساد، حسب التقرير.
شبكة حماية سرية
وفي يناير/كانون الثاني 2016، يتابع التقرير، قدم محققو “لجنة العدالة والمساءلة الدولية” ملف الحلبي إلى وزارة العدل النمساوية، وبدأ المسؤولون النمساويون البحث عنه، إلا أنهم شكوا في أن جهاز الاستخبارات النمساوي كان يحميه.
وفي 2023، حوكم 5 مسؤولين نمساويين، بينهم ضباط من جهاز الاستخبارات الداخلي، بتهمة إساءة استخدام مناصبهم لتسهيل لجوء الحلبي عبر اتفاق مع الموساد. وأُفرج عن 4 منهم في حين لم يحضر الخامس المحاكمة، وفق ما نقله المراسلان.
خلال المحاكمة في النمسا، كشف الادعاء أن رئيس الجهاز النمساوي نفسه سافر إلى إسرائيل عام 2015 وأبرم اتفاقا يقضي بتأمين إقامة العميد السوري في فيينا، مقابل معلومات استخباراتية عن الوضع في سوريا.
ورغم تبرئة بعض الضباط لعدم كفاية الأدلة، فإن المحاكمة منحت ضحايا الحلبي أول فرصة لرؤيته وجها لوجه، وكانت تلك اللحظة صادمة بالنسبة لهم، إذ تبين لهم أن الجلاد الذي عذّبهم كان حرا بعد كل تلك السنوات.
شهادات تكشف التواطؤ
كشفت الصحيفة أن ضحايا العميد السوري السابق، قرروا التعاون مع منظمات دولية مثل “مبادرة العدالة المفتوحة” لتجميع الأدلة وتقديم شهاداتهم.
وقال عبد الله الشام، أحد النشطاء من الرقة، إن اسم الحلبي كان يثير الرعب بين الناس خلال الثورة. وأضاف: “تخيّل أن ترى الرجل الذي عذّب أصدقاءك، جالسا في قفص الاتهام أمامك؟ إنها لحظة قلبت الموازين”.
أما المحامي أسعد الموسى (46 عاما)، فكان قد اعتُقل مرتين في عام 2011 على يد مجموعة الحلبي، وتعرض لاحقا لتعذيب قاس في مقر المخابرات العسكرية عام 2012.
وكان الموسى قد أنشأ لجنة من المحامين للدفاع عن المعتقلين في الرقة، ونظم إضرابا شارك فيه أكثر من مئة محام احتجاجا على استخدام العنف ضدهم.
وبعد هروبه من سوريا ووصوله إلى أوروبا عام 2015، وجد نفسه وجها لوجه مع جلاده السابق، أبو ركبة، داخل مخيم للاجئين في النمسا. وأمسك به أصدقاؤه حينها ومنعوه من الانقضاض عليه، خوفا من أن يؤدي ذلك إلى ترحيله من البلاد.
وأبلغ الموسى السلطات بوجود مجرم حرب في المخيم، لكنها لم تحتجزه، بل نقلته فقط إلى سكن آخر، وفق ما نقله المراسلان.
وقال: “الحكومة النمساوية وجهاز المخابرات ساعدا الموساد، وساعدا مجرمي الحرب التابعين له، هذه أبشع درجات الإجرام على الإطلاق”.
وخلصت الصحيفة إلى أن قضية الحلبي لا تمثل نهاية الطريق، ولكنها تذكير مؤلم بأن العدالة، حين تتقاطع مع المصالح السياسية والاستخباراتية، تصبح معركة طويلة، لكنها تستحق أن تُخاض حتى النهاية.






