كيف تضيع العدالة؟

18 ثانية ago
كيف تضيع العدالة؟

د. محمد عبد الله القواسمة

لكل مجتمع فاسد أساليبه في عدم تحقيق العدل بين أفراده؛ فمن المجتمعات من يلجأ أصحاب القوة والنفوذ فيه إلى الوساطة، أو التهديد والإرهاب، أو الرشوة رشوة القضاة، أو ولاة الأمر. ومنهم من يلجأ إلى الإغراء بمنصب، أو منزلة متميزة، لمن يساعدهم على أن يتنازل الضعيف عن حقه.

في هذه الحالات كلها يبقى الظلم واضحًا، والعدالة غائبة ويبقى من وقع عليهم الظلم متذمرين مما جرى، ويتحينون الفرص للحصول على حقهم. كما أن من ينجون من سيف العدل ربما ينتابهم، من وقت لآخر، هم ومن ساعدهم، ما نسميه عذاب الضمير، أو الخوف من عذاب يوم الدين.

لكن يبدو أن الإنسان إذا كان في منزلة اجتماعية أو سياسية عالية، لا يعبأ بالضمير، ويأبى تحمل أخطائه، بل يصعب عليه أن يعترف بها، أو أن ينبهه إليها أحد، ويهرب من وجه من يلاحقه للاقتصاص منه، كما فعل أحد ملوك الغساسنة، وهو جبلة بن الأيهم، الذي لطم أحد الأعراب على وجهه؛ لأنه داس على إزاره، وهو يؤدي مناسك الحج. وعندما اقتيد إلى عمر حكم عليه بقانون السماء إما أن يلطمه الأعرابي كما لطمه، وإما أن يسقط حقه؛ ففي الإسلام لا فرق في الحق بين شريف وفقير. لكن جبلة استكبر، وهرب في الليل، والتحق بملك الروم معلنًا ارتداده عن الإسلام، واعتناق المسيحية.

وإذا كان ملك الغساسنة لم يستطع احتمال تطبيق حكم العدالة عليه، وهرب ناجيًا بجلده فإن النبلاء وذوي السلطة والنفوذ في المجتمعات الظالمة تواجه القانون ومنطق العدل بالظلم، وإهانة الفقراء والمساكين، والاستخفاف بعقولهم، كما كان يحدث في عصر الإقطاع، فكان الإقطاعي يسطو على مال الفقراء، وحين يتجرأ فقير على سؤاله عن السبب يجيبه بأنه إنسان عادل يفعل ذلك مع ذاته أيضًا، ثم يدخل يده في جيبه، ويخرج منها نقودًا ويضعها في جيبه الأخرى.

لعل أول القوانين وأكثرها غرابة ذلك القانون، الذي وضعه مشرعون من الطبقة الغنية في القرن الخامس عشر في ولاية ساكسونيا، إحدى ولايات ألمانيا القديمة، وينص القانون على معاقبة عامة الشعب وخاصتهم دون تحيز أو تفرقة، ولكن تختلف بينهم طريقة تنفيذ العقوبة، فمعاقبة القاتل من الفقراء وعامة الشعب تكون بقطع را?سه وفصله عن جسده، أما إذا كان القاتل من النبلاء والاغنياء فمعاقبته تكون بتوقيفه في الشمس وقطع را?س ظله. وإذا كان الحكم بالجلد فإن تنفيذ الجلد يكون للمحكوم عليه من عامة الشعب وسط الناس، اما إذا كان من النبلاء أو الأغنياء، فيؤتى بالمتهم ويوقف في الشمس، ويجلد ظله. أما من يحكم عليه بالسجن من عامة الشعب فيوضع في السجن ليقضي مدة العقوبة المستحقة. وإذا كان من النبلاء والاغنياء فيوضع أمام الناس في السجن، ثم يخرج من البوابة الخلفية.

هكذا يرى المظلوم في البداية بأنه قد اعترف بحقه، ولكن في النهاية يدرك أن الظالم لم ينل ما يستحقه من عقاب، فيجن جنونه، وهو يرى خصمه طليقًا وسعيدًا؛ لأن القانون في صفه.

من الواضح أن قانون ساكسونيا وأمثاله وجد للتحايل على الضعفاء والفقراء، وحماية الأقوياء والأغنياء، ويرى ابن خلدون أن المجتمعات التي ينعدم فيها العدل لا يستقيم حالها، ولا يدوم استقرارها؛ فالعدل أساس الملك، بل هو الميزان الذي يحقق التوازن في المجتمع. يقول الله تعالى: «والسماء رفعها ووضع الميزان» وقريب من هذا المعنى في التمسك بالعدل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: « إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد»

في النهاية، نعجب مما نشاهده في كثير من المجتمعات والدول من مظاهر صارخة من الظلم، تتفوق على ما حدث في ولاية ساكسونيا القرن الخامس عشر، فما يجري أمام أعيينا من تجاهر بالظلم، والتباهي به، ومخالفة القوانين الدولية بكل فظاظة ووقاحة يجعلنا نرى بعض الحياء في قانون ساكسونيا، عندما يلجأ إلى التحايل والالتفاف حول الحق. فالآن ليس غير قوة السلاح لفرض الهيمنة، وسحق العدالة، وسلب حقوق الآخرين.