وطنا اليوم_
د. هاني محمود العدوان
عضو منظمة العفو الدولية
في دوامة متصاعدة من التوترات والتداخلات المعقدة، تتشابك خيوط الجيوسياسة لتشكل براثن قوية تعيد رسم خرائط النفوذ العالمي وتلقي بظلالها القاتمة على آمال البشرية في مستقبل يسوده السلام والازدهار، إذ لم تعد النزاعات المعاصرة مجرد صراعات إقليمية منعزلة، بل تحولت إلى شبكات عنكبوتية متشابكة من المصالح المتضاربة والأيديولوجيات المتناحرة، تمتد آثارها المدمرة لتطال أبعد البقاع، وتختبر قدرة المجتمع الدولي على التكاتف والتعاون في مواجهة هذه التحديات الوجودية
في صميم هذه البراثن، يظل الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية مثالاً صارخاً على هذه الصراعات الجيوسياسية المدمرة، فعقود من التهجير القسري، والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان، وارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، ليست مجرد مأساة إنسانية مستمرة، بل هي قنبلة موقوتة تهدد بتقويض الاستقرار الإقليمي والدولي، هذا الصراع المتجذر في التاريخ، والذي تغذيه مظالم الماضي والخلافات السياسية والدينية والاستراتيجية، يمثل نموذجاً معقداً لتداخل العوامل التي تشعل فتيل النزاعات الجيوسياسية وتطيل أمدها
لقد تجاوزت هذه الصراعات في عصرنا الحالي حدود المواجهات العسكرية التقليدية، لتتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً وتخفياً، فالحروب بالوكالة، والحروب السيبرانية، وحملات التضليل الإعلامي واسعة النطاق، غدت أدوات رئيسية في ساحة الصراع، مما يجعل تحديد الأطراف المتورطة ونطاق التأثير أمراً بالغ الصعوبة، وهذا التحول في طبيعة الصراعات يزيد من حدة التحديات التي تواجه جهود السلام، ويتطلب فهماً أعمق للديناميكيات المعاصرة للقوة والنفوذ،
ويتجلى التأثير المدمر لهذه الصراعات على السلام العالمي في صور مأساوية متعددة، فبالإضافة إلى الخسائر الفادحة في الأرواح والدمار الهائل للبنى التحتية، تتسبب هذه النزاعات في موجات نزوح ولجوء غير مسبوقة، تؤدي إلى تفكك المجتمعات وتمزيق النسيج الاجتماعي.
كما أنها تعيق جهود التنمية المستدامة، وتخلق بيئة خصبة لنمو التطرف والإرهاب، وتستنزف الموارد التي كان بالإمكان توجيهها نحو معالجة التحديات العالمية الملحة كالفقر والجوع والأمراض وتغير المناخ
ان معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة دليل حي على الثمن الإنساني الباهظ لهذه الصراعات، وتأثيرها العميق على استقرار المنطقة والعالم بأسره، ويهدد استمرار هذه الدوامة من العنف والصراع بتقويض النظام الدولي القائم على القانون والمؤسسات، ويضعف الثقة في قدرة المجتمع الدولي على حل الخلافات بالطرق السلمية، كما أنه يغذي حالة من عدم اليقين والقلق العالمي، ويقوض الجهود الرامية إلى بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً للجميع
إن استمرار تجاهل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم يقوض بشكل خطير مصداقية المؤسسات الدولية وجهود السلام، ويشكل وصمة عار على جبين الإنسانية.
لمواجهة هذه التحديات الجسيمة، يصبح من الضروري تبني مقاربة شاملة ومتعددة الأوجه لتحليل الصراعات وفهم ديناميكياتها المعقدة ويجب على صناع القرار والباحثين والمجتمع المدني العمل بتكامل لتحديد الأسباب الجذرية لهذه النزاعات، ووضع استراتيجيات فعالة لإنهائها
وذلك بالحوار الجاد والشفافية في التعامل مع القضايا الدولية، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي، والإلتزام الصارم بمبادئ القانون الدولي، وتفعيل آليات فض النزاعات السلمية
إن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة، يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق سلام عادل ودائم في المنطقة، وإرساء أسس أكثر متانة للسلام العالمي واعتباره اختباراً لكفاءة صناع القرار في المجتمع الدولي وقدرتهم على تحملهم للمسؤوليات،
لأن تحقيق السلام العالمي ليس مجرد أمنية نبيلة أو هدف بعيد المنال، بل هو ضرورة حتمية لبقاء وتقدم البشرية جمعاء، ويتطلب ذلك إرادة سياسية حقيقية، والتزاماً مشتركاً بقيم التسامح والتعايش السلمي، وإيماناً راسخاً بأن الحوار والتفاهم، واحترام القانون الدولي والالتزام به وتطبيقه هي السبل الأمثل لبناء عالم يسوده الأمن والعدل والازدهار للجميع
ان تحليل الصراعات الجيوسياسية بعدالة مجردة، وتضمينها المصداقية، ليس مجرد تمرين أكاديمي، بل هو خطوة حاسمة نحو فهم القضايا المتأزمة، وضرورة صياغة الحلول التي تعيد الحقوق لأصحابها
وتبقى قضية فلسطين شاهداً حياً على فشل المجتمع الدولي في معالجة أحد أطول وأكثر الصراعات تعقيداً في التاريخ الحديث، وتذكيراً دائماً بضرورة التحرك العاجل لإنهاء الظلم وتحقيق السلام العادل والشامل، قبل أن تستفحل شبكات اللهب وتلتهم ما تبقى من آمال في عالم يسوده الوئام .