بقلم إبراهيم السيوف
في زمنٍ غلبت فيه الصورة على الفكرة، والصوت المرتفع على الصوت العاقل، تَحولت منصات التواصل الاجتماعي من ساحةٍ للتقارب الإنساني إلى ميدانٍ يعجُّ بالخصام والتحريض، وغدت – لا مبالغة – منابر تُساق عبرها الجموع، وتُصاغ بها المواقف، وتُؤجَّج منها الفتن. إنها الحرب الناعمة التي لا تُسمع لها قعقعةُ سلاح، لكنها تفتكُ بالأمم من داخلها، وتُفتِّت بنيانها لبنةً لبنة.
لقد دخلت منطقتُنا – وفي قلبها الأردن – عصرًا رقميًّا مائعًا، لا يمسكه قانون، ولا يضبطه وعيٌ عام ناضج. فبكبسة زرّ، تُشاع الأكاذيب، وتُحرَّف الوقائع، ويُساء إلى الرموز، وتُصاغ أزماتٌ من فراغ، حتى أضحى الرأيُ العام يُقاد لا يُبني، ويُهتَز لا يُهتدى به.
ولعل الأدهى أن هذه المنصات تُدار – في كثير من حالاتها – بأيدٍ خفيّة، لا تريد خيرًا لهذه الأمة، بل تسعى لتقويض أمنها، وزرع الشكّ في نفوس أبنائها، وضرب العلاقة بين الشعوب ومؤسساتها.
فلم يعد الأمر مجرد تغريدة طائشة، أو منشور غاضب، بل أصبحنا أمام غرفٍ مظلمة، تُصنّع الرأي وتُبرمج العقول، وتُطلق جيوشًا إلكترونية مدرّبة على فنّ التأزيم، تقفز من حدثٍ إلى آخر، تُحَرّف، وتؤوِّل، وتبني على الوهم قصورًا من غضب.
وفي وطن كالأردن، يقف على تخوم النار، ويُمسك بخيوط التوازن في إقليمٍ لا يعرف الثبات، يصبح من أولويات خصومه أن تُضرب جبهته الداخلية، وتُزعزع ثقته بنفسه، لا بسلاحٍ يُشهر، بل بكلمةٍ تُلقى، وهاشتاغٍ يُنفخ فيه، ومنشورٍ يُصاغ بدهاء.
وكم من فتنةٍ استيقظت بسبب مقطع مُفبرك، وكم من مؤامرةٍ حِيكت بوسمٍ كاذب، وكم من قرارٍ سياديّ حُوكِم على المنصات قبل أن يُفهَم، وأُدِين قبل أن يُشرَح، لا لأن الشعب خصيمُ حكومته، بل لأن الساحة تُركت فارغة لمن أراد أن يملأها بالصراخ بدلًا من الخطاب، وبالتحريض بدلًا من الحوار.
إننا اليوم أمام معركة ليست تقليدية؛ إنها معركة وعي. معركةُ استردادٍ للعقل الجمعي من قبضة العواطف المُلتهبة، والمعلومات المضلّلة، والمحتوى المُسَيَّس. فالوطن، في عصر ما بعد الحقيقة، لا يُدافع عنه بالسلاح وحده، بل بالحكمة، وبخطابٍ إعلامي نزيه، وبرؤية شاملة تُدرك حجم الخطر، وتُسلّح المواطن بما يجعله حاجزًا أمام التيار لا ضحيةً فيه.
ولا يُفهم من هذا دعوة إلى تكميم الأفواه أو حجر الآراء، بل هو نداءٌ لصون الكلمة من الانزلاق في وحل الفتنة، وصيانة الرأي من أن يتحوّل إلى أداة هدم. فالحريّة الحقيقية لا تعني الفوضى، والنقد النزيه لا يُستعار من صفحات مأجورة، بل يُولد من ضميرٍ وطنيٍّ لا يُساوِم على ثوابته.
فيا أبناء الوطن، إنّ مناصّتكم ليست عدوكم، ولكن عدوكم من أراد لها أن تكون ساحة احتراب، لا فضاء حوار. وإنّ الكلمة مسؤولية، كما السلاح، فاحملوها بيقظة، واذكروا أن الفتنة نائمة، ولعن الله من أيقظها.