وطنا اليوم:في ليلة وضحاها أمر الخليفة العباسي هارون الرشيد بالقبض على وزيره يحيى البرمكي وأولاده ومواليهم، وكل من له صلة بهم، فقتل منهم من قتل ومات البقية في السجون بعد أن صودرت أموالهم وضِياعهم وأُعلن أن لا أمان لمن آواهم، وفي ساعات قليلة فقط انتهت أسطورة العائلة التي أمسكت مقاليد الحكم والسلطان لعقود في ظل الخلافة العباسية، فمن هم البرامكة، ولماذا سخط عليهم الخليفة بعد أن كانوا المتحكمين في شؤون الدولة، وما علاقة العباسة أخت الرشيد بنكبتهم تلك؟
من هم البرامكة؟
يُعتبر البرامكة من أعرق الأسر الفارسية، ويشبههم ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان بملوك الطوائف.
كان البرامكة مجوساً في الأصل، وقد كان جدهم الأكبر برمك عالماً في الطب والتنجيم، وسادناً في أحد أشهر معابد المجوس في بلاد فارس، وتجزم بعض الروايات بأنه دخل الإسلام في عهد عثمان بن عفان، وبعضها الآخر ينكر إسلامه، لكن بطبيعة الأحوال فقد دخل كثيرون من نسله في الإسلام وحسن إسلامهم، ولعل أبرزهم خالد بن برمك.
كان خالد بن برمك من كبار الدعاة إلى الخلافة العباسية، لذلك اصطفاه الخليفة العباسي أبو العباس السفاح ليكون وزيراً له.
ومنذ ذلك الحين بات البرامكة من علية القوم في ظل الدولة العباسية الوليدة، واشتد عودهم حتى بلغ أوجه، ثم تهاوى خلال ساعات معدودة في عهد هارون الرشيد.
ومن الجدير بالذكر أنه قد أُطلق اسم برمك على أناس كثيرين، لا ينتمون إلى الأسرة البرمكية، وقد يكون بعضهم من عتقاء البرامكة أو مواليهم.
تدرّج البرامكة في مراتب السلطة
عندما بدأ بنو العباس بطلب الخلافة أيّدهم الفرس عموماً، ونصروا دعوتهم، وقاتلوا معهم تحت قيادة أبي مسلم الخراساني، الأمر الذي مكَّنهم فيما بعد ليستأثروا بشؤون الحكم والخلافة.
وقد تسلم الفرس أعلى المناصب في الدولة العباسة في عهد البرامكة، فمنذ أن تولى أبوالعباس السفاح الخلافة سلم خالد بن برمك ديوانَي الخراج والجند، خاصة أنه اشتهر بقوته وحزمه ويقظته وبسالته في الحروب.
بعد ذلك أصبح خالد بن برمك وزيراً في عهد السفاح، وكذلك في عهد المنصور، مع العلم أن الوزارة هي من أرقى المناصب في الدولة.
وبعد وفاة خالد ظهر ابنه يحيى، الذي كان حسن التدبير، صائب الرأي كوالده، فقرّبه الخليفة المهدي بن المنصور إليه، لدرجة أن الخيزران، زوجة الخليفة المهدي، قد أرضعت الفضل بن يحيى البرمكي مع ولدها هارون الرشيد، ليصبح الاثنان إخوة في الرضاعة.
وقد عهد المهدي إلى يحيى البرمكي تربية ابنه هارون وتأديبه، وعندما تولى الهادي ابن المهدي الخلافة احتفظ يحيى البرمكي بمكانته في الدولة، إلى أن حاول الهادي خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد وتولية ابنه جعفر مكانه.
لم يرضَ يحيى البرمكي بخلع هارون الرشيد، وحرّضه على رفض قرار الهادي، فما كان من الخليفة إلا أن أمر بحبس يحيى البرمكي وكاد يهم بقتله، لولا أن وافته المنية أولاً.
الوزير البرمكي وأم الخليفة يديران الدولة العباسية
بعد وفاة الهادي تسلم الرشيد الخلافة، وأعاد يحيى البرمكي إلى السلطة والوزارة من جديد، بل وسلمه مقاليد الأمور بشكل تام، فكان يتمتع بصلاحيات مطلقة، فتسلم أمور الحكم، وجباية الأموال وسد الثغور، وراح يعين ويعزل كما يشاء، وكأنه الحاكم الفعلي، ولم يشاركه سلطاته سوى الخيزران والدة الرشيد.
وخلال فترة حكمه التي امتدت قرابة 17 عاماً، كان أبناء يحيى البرمكي الأربعة يعاونونه كذلك في شؤون الحكم، وهم الفضل وجعفر ومحمد وموسى.
وقد كان للفضل وجعفر نصيب الأسد في السلطة، فقد ولَّى الرشيد جعفر المغرب كله من الأنبار إلى إفريقيا، وقلَّد الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، كما تمتع الفضل وجعفر بصلاحيات والدهما الوزير يحيى البرمكي.
فضلاً عن ذلك، فقد كلف الرشيد الفضل بن يحيى بتربية ابنه الأمين، بينما كان المأمون من نصيب جعفر.
أسباب نكبة البرامكة
من دون سابق إنذار انقلب هارون الرشيد على البرامكة جميعاً، بما فيهم يحيى البرمكي، الذي اعتاد مناداته بـ”أبتي”، والفضل بن يحيى أخوه في الرضاعة، وجعفر بن يحيى الذي كان صديق صباه وأقرب المقربين إليه.
وقد اختلف المؤرخون كثيراً في تعليل الأسباب التي دفعت الرشيد للتنكيل بالبرامكة، وحبسهم وقتل كثيرين منهم، وصادر أموالهم وضياعهم.
فأما ابن خلدون فقد عزا ذلك في مقدمته الشهيرة إلى استبداد البرامكة في تصريف شؤون الدولة وحيازتهم أموالها بغير حق، إذ كانوا يعيشون في ترف شديد، ويبنون قصوراً موشّاة بالذهب والفضة.
ويُحكى أنَّ الرشيد كان في سفر ذات يوم، فما مر على قصر أو إقليم أو قرية إلا قيل له: هذا لجعفر.
كما يقول ابن خلدون إنه كان في قصر الرشيد 25 مسؤولاً، جميعهم من ولد يحيى البرمكي، يشاركون الخليفة في سلطانه، ويزاحمون غيرهم في المناصب والمراتب.
ويشير بعض المؤرخين إلى أن سبب الخلاف الذي وقع بين الرشيد والبرامكة كان شكوكه في ميلهم إلى الطالبيين وآل البيت، الذين ثاروا على الخلافة العباسية في بلاد فارس، وتنامى إلى أسماع الخليفة الرشيد أن موسى بن يحيى البرمكي يدعمهم، خاصة أن للبرامكة جيشاً قوياً تعداده قرابة 50 ألفاً، فضلاً عن الأموال الهائلة التي يمتلكونها.
كما يعزو البعض ما حل بالبرامكة إلى أصولهم المجوسية، ويقال إنهم حاولوا إظهار الزندقة، وأدخلوا النار إلى الكعبة حتى تعبد هناك، إلا أنه قول ضعيف ويفتقر إلى الأدلة.
إلا أن السبب الأكثر إثارة للجدل والذي يرجح بعض المؤرخين أنه كان سبباً في غضب الرشيد على البرامكة، فهو قصة الحب التي نشأت بين جعفر البرمكي والعباسة أخت الرشيد.
جعفر البرمكي والعباسة أخت الرشيد
كانت العباسة بنت المهدي أديبة وشاعرة وعازفة بارعة، عُرفت بجمالها وموهبتها في العزف والغناء، وقد كثرت الأقاويل والحكايات التي تناولت علاقتها بالوزير جعفر ونكبة البرامكة.
إذ يروي المسعودي أنها من أوصلت جعفراً إلى نهايته المشؤومة، فقد نشأت بينهما قصة حب دون علم الخليفة، الأمر الذي أغضب الرشيد، ودفعه لصبّ جام غضبه على البرامكة جميعاً.
ويحكى في بعض الروايات أن الرشيد زوج أخته من جعفر زواجاً صورياً كي يتجنب حرمة لقائهما ببعضهما، وخاصة أنهما كانا يجتمعان في مجلس الخليفة لإلقاء الشعر. لكن الرشيد اشترط أن يبقى هذا الزواج صورياً وألا يجتمعا إلا بوجوده.
وتقول الحكاية أن العباسة أحبت جعفراً حباً شديداً وظلت تراوده عن نفسه حتى حملت منه في النهاية وأثارت غضب الرشيد.
لكن من جهة أخرى ينفي ابن خلدون والطبري وابن حزم هذه القصة، ويعزون غضب الرشيد إلى استبداد البرامكة.
نهاية البرامكة
مهما كانت الأسباب التي أدت إلى إثارة غضب الرشيد، فقد كانت النتيجة قتل جعفر بن يحيى والتنكيل به بعد موته، فقد أرسلت جثته إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على جسر هناك.
وتم إلقاء القبض على يحيى البرمكي وأولاده ومواليه وكل من كان حولهم، فمنهم من مات في السجن، ومنهم من قُتل على الفور، لتنتهي أسطورة البرامكة وسلطتهم بين ليلة وضحاها، تاركين وراءهم فراغاً كبيراً في الدولة العباسية، بعد أن كانوا مسؤولين عن كل صغيرة وكبيرة فيها.