كتب د. محمد عبدالله القواسمة :
يسعى الأديب سواء أكان شاعرًا، أم روائيًا، أم قاصًا، أم غير ذلك إلى الشهرة. الشهرة على المستوى المحلي، أو القومي، أو العالمي. فنراه يبذل جهده في هذا السبيل، ويفرح كثيرًا إذا ما ترجم عمله، أو نال جائزة من هنا أو هناك، أو تكلم ناقد على أعماله، بل رأينا بعض الأدباء أو المتأدبين يبذلون المال من أجل أن تترجم أعمالهم، أو من أجل جذب النقاد ليشيدوا بها، في صحيفة أو ندوة.
ويتوسل معظم الأدباء بقوة نافذة أو فاعلة؛ لدعمهم وتبني أدبهم؛ ليبلغوا الشهرة. ونجد بعضهم يحظون بالشهرة لمجرد قوة عارضت أدبهم، أو نبذتهم، أو زجتهم في السجون. والمقصود بالقوة هنا قوة الدولة، أو المؤسسة، أو الحزب، أو القبيلة، أو أية قوة مالية أو إعلامية. ويمكن أن نمثل على الشهرة التي تنبع من الاعتماد على القوة والاحتماء بها بالشعراء الجاهليين؛ فلا يوجد شاعر مشهور لم تتبناه قبيلته، أو لم يكن في ظهره – كما يقال – قبيلة، كما شعراء المعلقات فوراء امرئ القيس قبيلة كندة، وزهير بن أبي سلمى مزينة، والنابغة الذبياني ذبيان، وعمرو بن كلثوم تغلب، وعنترة بن شداد عبس وهكذا.
وللتدليل على الشهرة التي تنبع من معارضة القبيلة، أو أحد سادتها للشاعر، أو معارضة الشاعر نفسه لقبيلته تتبادر إلى ذهننا ظاهرة شعراء الصعاليك؛ فوراء كل شاعر من الصعاليك قبيلة وقفت في وجهه وخلعته؛ ليكون مشردًا وقاطع طريق، أو اندفع نفسه ليتمرد على قوانين القبيلة، وابتعد عنها، واكتسب الشهرة من ذلك. فعلى سبيل المثال، وراء صعلكة عروة بن الورد قبيلة عبس، وتأبط شرًا قبيلة فهم، والشنفرى قبيلة الأزد وهكذا.
وفي العصر الحديث، يغدو الروائي غالب هلسا ذا شهرة في مصر، وفي بلده الأردن. لقد استندت شهرته في الدرجة الأولى إلى قوة الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه، وعلى موقف الدولة الأردنية منه عندما نفته ومنعت تداول رواياته، ورأينا تلك الشهرة تزداد بعد موته حين اعتذرت له الدولة، ومنحته جائزتها التقديرية عام 2007، وقامت وزارة الثقافة بدعم نشر أعماله الروائية، لتصدر عن دار أزمنة عام 2003م، كما خصصت رابطة الكتاب الأردنيين جائزة باسمه، وجرى الحديث عن تحويل بيته في قرية ماعين متحفًا، كما كثرت الرسائل والأطروحات الجامعية حول أدبه.
وفي الشعر الأجنبي، نجد الشاعر التركي ناظم حكمت، تستند شهرته في البداية، مثلما شهرة هلسا، إلى قوة الحزب الشيوعي المعادي للدولة الذي كان منتميًا إليه. وزادت شهرته بعد مرور ستة وأربعين عامًا على وفاته، حين أعادت إليه السلطة جنسيته التركية، وسُمحت لكتبه بالتداول بين الناس.
ورأينا بعض الأدباء لم يصلوا إلى الشهرة في بلدانهم، مع جودة أعمالهم، ولم نعلم بهم إلا بعد ظهور قوى اهتمت بهم لأسباب مختلفة، مثل الروائي الفرانكفوني أمين معلوف. فقد اهتمت به فرنسا وبلغ قمة الشهرة التي لم يجدها في بلده لبنان؛ لأنه كتب رواياته باللغة الفرنسية، وعبر فيها عن وجهة النظر الفرنسية في الثقافات المتوسطية، ومجد الثقافة الغربية وبخاصة الفرنسية، ونال الجوائز عن ذلك، وانتخب أمينًا دائمًا للأكاديمية الفرنسية.
كما رأينا أدباء زادت شهرتهم بعد وفاتهم؛ إذ وجدت القوة التي اهتمت بأعمالهم، ويحضر من هؤلاء الشاعر والكاتب المسرحي العالمي شكسبير؛ فقد توهجت شهرته حين تنبهت إلى أدبه بريطانيا العظمى، حتى إن وينستون تشرتشل رئيس الوزراء البريطاني المعروف قال:» إن بريطانيا العظمى مستعدة للتنازل عن جميع مستعمراتها في العالم، لكنها لا تستطيع التنازل بأي حال من الأحوال عن سطر واحد كتبه شكسبير». ثم رأينا النقاد الألمان وبخاصة الناقد فريدريش شليغل يعرفون بلادهم بشكسبير، ويترجمون معظم أعماله إلى الألمانية. إنها قوة بريطانيا العظمى، وقوة النقد اللتان بعثتا شهرة شكسبير في الدرجة الأولى قبل جودة إبداعه وتميزه.
ومن الأدباء، الذين نالوا الشهرة بعد الموت الكاتب الألماني من أصل تشيكي فرانز كافكا، فلم يكن معروفًا في حياته، وأوصى بأن تحرق كتبه بعد موته، ولكن صديقة ماكس برود تجاهل وصيته ونشر أعماله كلها. لقد كان برود القوة التي بعثت شهرة كافكا ليبقى أدبه خالدًا.
ونجد كثيرين من الأدباء والمتأدبين استعانوا بقوة التكنولوجيا الإلكترونية، واستخدموا وسائلها: الفيسبوك، واليوتيوب، والواتس وغيرها للوصول إلى الشهرة، وكسبوا آذان كثير من الناس دون أن يملكوا الموهبة، والقدرة على الإبداع، واستيعاب المعرفة. وظهر ما يقدمونه في غاية الركاكة والضعف، وأقرب إلى التهريج والمسخرة.
وأمثال هذه الشهرة المزيفة لا تدوم طويلًا؛ لأن القوة، قوة التكنولوجيا التي اعتمدت عليها متغيرة، والأعمال التي نتجت بقوتها بُنيت على ثرثرة حسب أمزجة الناس، وهدفها التسلية وتمضية الوقت، لذا فإن الناس يتعاملون معها كما يتعاملون مع الموضة.
على كل حال، مع أن الموضوع شائك، ويحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث إلا أن ما نراه يتلخص بأن الأديب لا يصل إلى الشهرة، حتى لو كان أدبه متميزًا إلا بقوة تقف من إبداعه سلبًا أو إيجابًا. وأن الشهرة التي تتحقق دون إبداع حقيقي شهرة مؤقتة، تزول بعد زوال القوة التي صنعتها، ولا تبقى حتى في ثنايا التاريخ الأدبي أو الفكري، إنها الزبد الذي يذهب هباء.
هكذا فإن نظرية القوة تفسر الشهرة. ربما، ليس الشهرة الأدبية فحسب، بل أية شهرة أيضًا.