وطنا اليوم:في مسعى للصمود على جبهات بطول يناهز ألف كيلومتر، تواجه أوكرانيا تحديات حقيقية لتجاوز النقص المقلق في عدد الجنود. فمن جهة يتعين على قيادة الجيش توفير جنود جدد لتعويض القتلى والجرحى، ومن جهة ثانية يحتاج الجيش إلى العمل بقاعدة المناوبة لتمكين آلاف الجنود من أخذ إجازاتهم، بعد أن ظلوا في الجبهات فترات طويلة منذ الاجتياح الروسي في فبراير/شباط 2022.
وعلى الأرض، كثفت مراكز التجنيد من دورياتها في الشوارع ومحطات النقل والفضاءات العمومية لضبط الرجال المخوّلين باللحاق بالجبهات العسكرية، إذ يوقف الموظفون العاملون في المراكز المارّة للتثبّت من بياناتهم كما يدهمون التجمعات أينما كانت لهذا الغرض. وتسببت هذه الحملات في تحويل كثير من الشوارع والساحات إلى مدن أشباح خوفا من عمليات التعبئة، كما تنقل وسائل إعلام غربية.
وبينما تستعد روسيا على الأرجح لشن هجوم واسع في صيف 2024، تنقل صحيفة “لوموند” عن أحد الموظفين في مركز التجنيد “الناس لا يفهمون أننا سنخسر الحرب إذا لم نقم بالتعبئة الكافية، نحن نخوض معركة وجود لبلدنا”. وتتردد هذه الشكاوى بصفة أكبر في الأقاليم الغربية للبلاد البعيدة عن خط المواجهة مع القوات الروسية.
ويشير حسين الوائلي الإعلامي والمحلل السياسي المتخصص في الشؤون الأوروبية في بروكسل إلى أن “أوكرانيا اكتشفت الأزمة المرتبطة بالعدد داخل الجيش، في حين أن الحديث الطاغي داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي يرتبط بالإمدادات المالية والتقنية. لكن تغيير المناصب داخل مؤسسات الاتحاد سيدفع على الأرجح بمنطق ومفهوم عسكري آخر لإدارة الصراع مع روسيا إلى جانب المنطق المالي والاقتصادي”.
ويتابع الوائلي في تعليقه “لقد ثبت الآن أن البعد التكنولوجي لم يكن حاسما في المعركة، والبعد العددي في الوقت الحالي من الصعب تجاوزه في ظل التغيرات الجيوسياسية في المنطقة”.
الوائلي: ثبت أن البعد التكنولوجي لم يكن حاسما في المعركة والبعد العددي من الصعب تجاوزه (الأناضول)
قانون تجنيد متأخر
ولتجاوز هذه المعضلة، دفعت السلطة بنصوص قانونية تسمح بتخفيف القيود على شروط التجنيد، فقد وقع الرئيس فولوديمير زيلينسكي قانونا لخفض السن الأدنى المطلوبة من 27 إلى 25 عاما مع مرونة أكبر في الشروط البدنية والصحية التي تخضع لاحقا لتقييم لجنة متخصصة.
وفي شهر مايو/أيار دعت السلطات الرجال الذين تراوح أعمارهم بين سن 18 و60 عاما إلى التحديث الدوري لبياناتهم على منصة رقمية حتى يتوفر للجيش هامشا مناسبا لاختيار المتطوعين في المراكز المطلوبة. ويقوم موظفو مراكز التعبئة بعمليات تمشيط ومراقبة يومية في الشوارع وفي كل مكان للتثبت من حاملي وثائق التسجيل على المنصة.
وربطت السلطات شرط التسجيل على المنصة بجميع الخدمات القنصلية التي تقدمها سفارات وقنصليات الدولة للمغتربين أو اللاجئين الأوكرانيين خارج البلاد، وهو إجراء منح دفعة إيجابية نسبيا للتعبئة العسكرية، وفق اللجنة البرلمانية المكلفة بالأمن الوطني والدفاع.
ويشير تاراس تشموت، أحد أبرز المحللين العسكريين في أوكرانيا والمحارب السابق في عمليات مكافحة الإرهاب، في حوار لصحيفة “أوكرايانسكا برافدا” المحلية، إلى حاجة أوكرانيا القصوى إلى الموارد البشرية التي باتت تمثل أولوية مطلقة لكييف إذا ما أرادت أن تأخذ الحرب وجهة أخرى.
وتابع المحلل في تعليقه “لقد قام الروس بإعادة تنظيم وارداتهم من المكونات المستخدمة لتصنيع الأسلحة والمعدات العسكرية والاستعداد للتعبئة المقبلة وتدريب 300 ألف عنصر في الصيف. نحن نحتاج إلى شيء ما لمواجهتهم”.
ويعتقد تشموت أن التعبئة الأوكرانية كان يفترض أن تبدأ بمن سنهم 20 عاما، ولا يعني ذلك ضرورة وجود الجميع على جبهات القتال ولكن الالتزام بأدوار لوجستية محددة في قطاعات مختلفة داخل الجيش.
وتابع المحلل في تعليقه “خسرنا كثيرا من الوقت. وما تعاني منه أوكرانيا هو الافتقاد إلى ‘الفعالية’، وهو أمر يصعب من مهمة تحقيق النصر ضد ‘قوة شمولية’ في بلد يعد 150 مليون نسمة ويتمتع بموارد هائلة”.
وعلى الرغم من أهمية القانون الأوكراني فإن أغلب الخبراء العسكريين، ومن بينهم الجنرال فينسون ديبورت أستاذ الدراسات الإستراتيجية في كلية العلوم السياسية بباريس، يتحفظون على الصبغة المتأخرة للخطوة وحاجتها إلى فترة تقدر ببضعة أشهر لتؤتي ثمارها على مستوى التعبئة قبل بدء التدريب ومن ثم الدفع بالجنود في الجبهات وتنظيمهم في وحدات كبيرة.
وهناك خلافات واضحة بشأن حجم التوقعات للتعبئة، إذ كان الحديث في البداية عن تقديرات تراوح بين 300 ألف ونصف مليون مجند جديد، قبل التراجع عن ذلك. وأما برأي أوكسانا زابولوتنا، المحللة في المنظمة غير الحكومية الأوكرانية “مركز العمل المتحد”، فإن سقف التوقعات لا يمكن أن يتجاوز 50 ألف جندي فقط.
لكن التحدي الأبرز لإدارة زيلينسكي يتمثل في الهامش المتاح لتجنيد الأصغر، وذلك بسبب التركيبة الديمغرافية لأوكرانيا التي اتسمت بانخفاض نسبة المواليد في الفترة بين الحربين، وذلك ما خلف آثارا ظلت مستمرة وملموسة حتى لدى الأجيال اللاحقة.
ويرصد الخبراء أيضا الانخفاض الكبير في المواليد في أوكرانيا منذ عام 1991 وعلى مدى سنوات، بسبب تداعيات سقوط الاتحاد السوفياتي ومن بينها الأزمة الاقتصادية الحادة، وقد ألقى هذا بظلاله على تركيبة السكان في أوكرانيا.
ولتفسير ذلك إحصائيا، وفق صحيفة “نيويورك تايمز”، يبلغ عدد الأشخاص الذين ترواح أعمارهم بين 18 و27 عاما نصف عدد الأشخاص الذين يبلغون من العمر 40 عاما في أوكرانيا، وهي حقيقة ديمغرافية تفسر سبب تجاوز متوسط عمر الجنود الأوكرانيين 40 عاما.
هروب جماعي
يفرض القانون الأوكراني عقوبات على من يرفضون نداءات التعبئة بغرامة مالية تقدر بنحو 200 يورو وأكثر من 4800 يورو في حال تكرار المخالفة، وهو مبلغ ضخم في بلد يبلغ فيه متوسط الأجر الشهري حوالي 600 يورو.
ولكن مع ذلك، فإن إجراءات السلطات لم تحد من عمليات الهروب الجماعية من التجنيد، وهي معضلة لفتت إليها تقارير بوسائل إعلام محلية تشير إلى عمليات استخدام واسعة النطاق من قبل مئات الآلاف لتطبيق “التليغرام” من أجل تعقب تحركات موظفي مراكز التجنيد ومن ثم تجنبهم في الشوارع.
ويختار كثيرون تجنب الخروج إلى الشوارع والساحات المعروفة بأنها تشهد عمليات مراقبة، بينما سجلت أوكرانيا بشكل عام حالات مغادرة مكثفة للبلاد لهذه الفئات عبر الحدود الغربية، معرضين حياتهم للخطر بتجاوز جدران الأسلاك على الحدود أو الأنهار والعوازل الطبيعية، وهذا على الرغم من صدور قرار يمنع الرجال المخولين للقتال بمغادرة البلاد.
وبحلول الذكرى الثانية للاجتياح الروسي في فبراير/شباط 2024 كان عدد المغادرين للبلاد قد تخطى عتبة 5.6 ملايين شخص موزعين في 11 دولة أوروبية بصفة لاجئين، وفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة.
وفي مسعى للحد من آثار التخلف عن نداءات التجنيد، دفع البرلمان بحل إضافي بأن سمح بفتح الباب أمام فئات محددة من المساجين للالتحاق بالجبهات مقابل التمتع بعفو قضائي، ويستثنى من هذا القانون المورطون في قضايا خطيرة مثل القتل أو العنف الجنسي أو الاعتداء على الأمن العام.
لا تصدر بيانات دقيقة من الجانب الأوكراني بشأن الوضع الميداني للجيش، لكن في فبراير/شباط 2024 كشفت شبكة “سي إن إن” (CNN) الأميركية -نقلا عن مستشار للرئيس الأوكراني- أن ما بين 200 ألف إلى 300 ألف فقط شاركوا في القتال على الجبهات، مشيرة إلى معضلة البيروقراطية التي يعاني منها الجيش بسبب كثرة الوحدات الإدارية العاملة به.
ومع أن روسيا تواجه مشاكل مماثلة بخصوص التجنيد إلا أنها تحتفظ بميزة امتلاكها لحجم سكاني أكبر بـ3 مرات من أوكرانيا. وتشير تقديرات الخبراء العسكريين إلى تجنيد موسكو 200 ألف جندي في بداية الاجتياح في فبراير/شباط 2022.
ووفق بيانات “المعهد الملكي للخدمات المتحدة”، وهو مجموعة تفكير بريطانية متخصصة في شؤون الدفاع، فإن تعداد الجنود الروس تضاعف في بداية 2024 ليصل إلى 470 ألف جندي، بينما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في فبراير/شباط من العام نفسه بأن إجمالي الجنود الروس الموجودين في الجبهات يصل إلى 600 ألف.
ويقول تشموت لصحيفة أوكرايانسكا برافدا “لم ينجح الروس في حسم المعركة بسرعة، ولا في إخضاعنا عسكريا، ولا في تدمير الدعم الغربي. لقد عبروا إلى إستراتيجية يفضلونها وهي الحرب على المدى الطويل، أي حرب استنزاف”.
ويعتقد تشموت أن السياسات الدفاعية ستكون مكلفة لأوكرانيا التي ستحتاج للصمود على مدى سنوات، وهذا سيستنزف كثيرا من مواردها، فضلا عن الحاجة إلى المناوبة في صفوف الجيش. كذلك فإن هذه الإستراتيجية ستضع الدعم الغربي على المحك، لذلك يشدد المحلل على ضرورة أن تتخذ كييف قرارات “غير شعبية” وإلا فإن البلد سيواجه مشاكل أكثر خطورة في المستقبل.
بوجه عام، أدت أزمة التجنيد إلى إثارة نقاش مجتمعي بشأن نظرة الأوكرانيين إلى الحرب ومآلاتها في نهاية المطاف، وكشفت دراسة استقصائية أجرتها منظمة “إينفو سابيان”، وهي منظمة أوكرانية للأبحاث الاجتماعية، في فبراير/شباط، أن 48% من الرجال قالوا إنهم “غير مستعدين للقتال”، مقارنة بـ34% قالوا إنهم “مستعدون” و18% قالوا إنه “من الصعب القول”.
وبعد مرور حوالي عامين ونصف على الغزو الروسي، كشف استطلاع أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، المؤسسة الفكرية المعنية بالأبحاث حول السياسة الخارجية والأمنية، عن أن 58% من الأوكرانيين يعتقدون أنهم قادرون على الفوز في الحرب وأن الثقة بقواتهم المسلحة ورئيس البلاد لا تزال عالية.
وتشير نتائج استطلاع الرأي إلى حالة انقسام شديد بين الأوكرانيين عندما يتعلق الأمر بتسويات محتملة لإنهاء الصراع، فعند السؤال: هل ينبغي لأوكرانيا أن تقبل عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو) مقابل التنازل عن الأراضي المحتلة؟ أجاب 48% بـ”لا” و23% بـ”ربما لا”.
وفي سؤال آخر يفضل 45% ممن استطلعت آراؤهم من المواطنين خيار “خسارة أوكرانيا لأجزاء من الأراضي المحتلة حاليا” مع بقائها “ذات سيادة، مع جيشها الخاص وحرية اختيار تحالفاتها الخاصة” كالاتحاد الأوروبي والناتو، بينما يفضل 26% “استعادة الأراضي المحتلة حاليا، ولكن مع تجريد البلاد من السلاح والحياد”، أي عدم الانضمام إلى أي تحالفات إقليمية.
وفي كل الحالات يستبعد الوائلي أن “يتراجع الاتحاد الاوروبي عن دعم أوكرانيا، إذ هناك ميزانية مفتوحة بقيمة 54 مليار يورو تم إقرارها في قمة سابقة لرؤساء الدول الأعضاء لدعم الإمكانات العسكرية لأوكرانيا، بالإضافة إلى تعهدات منفردة لعدد من الدول مثل بلجيكا والدانمارك لتقديم الدعم عبر التدريب وخاصة تزويدها بطائرات إف 16”.
وتابع الوائلي “لا ننسى الناتو الذي يرتبط بالإستراتيجية العسكرية والذي أقرّ أيضا صندوقا لدعم أوكرانيا بـ100 مليار يورو ما يضمن الإمدادات المالية اللازمة لكييف”.
وفي تقدير الخبير، فإن أصحاب المناصب العليا داخل مؤسسات الاتحاد، ومنها منصب رئاسة المجلس الأوروبي بعد الانتخابات البرلمانية، هم من سيحددون وجهة الصراع مع روسيا ومستقبل الدعم المالي لكييف.