بقلم : صالح إبراهيم الرواشدة
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبالله نستعين)
الحمد لله حمداً لا يحصى، ولا اعتراض على قدره، ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وعبده وحبيبه وخليله ومجتباه …، وبعد:
إلى أمي … أول من نطق لساني وتمتمت شفاهي بذكرها … إلى من رعت (إلى جانب والدي رحمه الله تعالى) الطفولة والنشأة … وقومت المسيرة وشحذت الهمم… وقوت العزم والعزيمة، وغرست ألإرادة والإصرار والطموح ، وزرعت الزرع والغرس بوفاء وعهد وحنان الأمومة الخالصة والزوجة الصالحة ثم كفلته حتى نشأ ونما وكبر وترعرع وزها ،إلى قوامة الليل ،وصوامة النهار ،الى من تستحق بعد المولى عز وجل الشكر والإمتنان والإجلال والإكرام والعرفان وعظيم المحامد…،إلى من رعتني صغيراً وحملتني بكل همومي وأوجاعي وآلامي صغيراً وكبيراً ، وتحملت من أجلي الكثير والكثير وكان لي من حبها وعطفها وحنانها وودها الحظ الأوفر والوفير … إلى من أشفتني بدعواتها (بعد الله عزوجل)مريضاً ، ونجوت من نوائب الدهر مراراً وتكراراً بفضل مناجاتها للواحد الأحد الفرد الصمد إلى من لها ( إلى جانب والدي رحمه الله تعالى) الفضل بعد البارئ عز وجل في وجودي الى أغلى وأنقى وأطهر وأعذب وأسما حب نما وترعرع … إلى أعظم حب كبر وتمدد وتفرع ،ولن ينضب أو يتبدد أو يذهب أو تمحوه السنين والأعوام والأيام.
أخط هذه الحروف وأرسمها بإسهاب لعلي أستطيع وصف سمات وسجايا من كانت لي عنواناً ورمزاً في الشموخ والوفاء والكبرياء ، وهي حروف نابعة من أعماق قلبي المنفطر حزناً وألماً وكمداً وأمهرها (بعد التسليم بقضاء الله وقدره) بالعبرات والزفرات قبل الجمل والمصطلحات والعبارات.
إنها حروف وكلمات تسرد ما لا يسرد من فقد الأم العميدة ، والحبيبة ،والرفيقة ،والصديقة واللبيبة ، والرحيمة… سيدة الحب والوفاء والإخلاص والرحمة والحنان ، والرأفة والمودة.
إنها كلمات محزون مكدوم مكلوم مكتو بحرقة اللوعة والإلتياع والوداع والفراق …، نابعة من أحشاء وصميم القلب ووجدان الفؤاد … أخط فيها هذه السطور العاجزة … عن وصف الأم المدرسة والأم المربية والحاضنة والملهمة … فإن لم يحزن المرء على فقدان أمه كحزن يعقوب أو تذرف دموعه على فراقها فعلى من يبكي أو يحزن أو يتألم أو يتوجد أو يجزع؟؟؟ نعم إنه البكاء الذي قد يطفئ جمرات الحزن ولهيب الفقد وحماة الوجد، وحرارة المصاب الجلل …، بكاء لا يمكن أن يفضي إلى محو مرارة اللوعات والنوائب وخاصة نائبة موت أعز وأغلى البشر على قلبي.
وما سلوتُ سلو الأغمار … ولكني تذكرت وعد الله عز وجل للصابرين، فامتثلت وخضعت وسلمت وآمنت، فصرخت منادياً وبأعلى الصوت قائلاً (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وما زلت وسأبقى أرددها آلاف المرات، وأتزود بها في كل وقت وحين.
ولئن كان الرثاء والمرثيات عنواناً للوفاء والعهد والوعد …، فمن أحق من (أمي)رحمها الله تعالى بالرثاء … ولكن ماذا سيخط قلمي (الحزين الكامد) عن نهر الحنان ومنبعه وبحر الوفاء واخلصه،وأجمل الأشجار واورفها ظلاً، واينعها ثمراً وأعزها كبرياء وشموخاً .
(امي) العز والمفخرة … (سرعه البديهة والذكاء الفطري) كان زادها ، تحسبها أمية التعليم ، وقد أوتيت من رجاحه وفطانة العقل وبيان الفطرة ما تفوقت به على المتعلمين والمثقفين … نعم أمية كانت ولكن آراؤها السديدة الحكيمة تجاوزت آراء ذوي العلم …، أوتيت من سلامة القلب وحب الخير ما تأسر بهما العقل والفؤاد معاً ، فإذا بك تنصاع لبوصلتها الحكيمة الدقيقة ومواقفها الثاقبة عن حب وطواعية بكل سلاسة ودون انقياد أو اکراه أوکلل أو ملل …، تسبقها القبلة الرحيمة قبل النصيحة الموجهة ، واليد الحانية الحنونة قبل الكلمة الآمرة أو الناهية ، والدعوة الفطرية الصادقة الجامعة (وبدون أي تكلف) قبل وبعد واثناء الحديث والمسامرة.
لقد آنست روحها محبة الأحباب والأقرباء والأصدقاء والجيران، فتأثروا وتعلقوا بعذوبة حديثها وكلماتها، وغرست عباراتها وكافة مواقفها الوازنة الموزونة الرزينة في نفس كل من عرفها معنى الحماس والإرادة والعزم والعزيمة والأمل والطموح، فالكل كان يصغي إلى حديثها وكلامها يستلهمون منه مسيرة العطاء والبناء والبذل والإيثار والسخاء والإقدام .
(امي) الصابرة المصابرة التي اتسمت برباطة الجأش …، فلم تزدها فواجع الأقدار وغصة القلب وحرقة الشعور، من يتم الطفولة والأمراض المتتالية، وفقد الأبناء والزوج والأخوة والأخوات … إلا صبراً وقوة ومضاء وجلداً ، وتعلقاً بالخالق الرزاق الوهاب الحنان ذو الجلال والإكرام فلم أذكر يوماً وطيلة حياتي في أصعب وأحلك الظروف والأزمات أن أمي أنت أو ضعفت أو شکت أو غضبت أو
تأففت أو ضجرت …، بل كانت تلهج دوماً بدعوات متواصلة مستمرة ملؤها الحمد والشكر والتسليم بقضاء الله وقدره… (الحمد لله على كل شيء الله أعطاني وأكرمني بكل شيء تمنيته ، وما شفنا من ربنا إلا كل خير ، ويا رضى لله ورضى الوالدين ،ويا رب حسن الخاتمة ، ويا رب أنت جاهي واتجاهي فلاتخيب رجائي ودعائي ).
كانت (أمي) أماً عظيمة مع أبنائها ، وجدة حنونة على أحفادها ، مخلصة لله عز وجل في عبوديتها وديانتها ، وفية مخلصة مطيعة لوالديرحمه الله تعالى) في حياته وخلال مرضة وبعد وفاته كانت أمي رحيمة رؤوفة تحمل بين ثنايا أضلعها قلباً محباً معطاءاً كبيراً ، لا تعرف إلا العفو والمسامحة ، وكانت (رحمها الله تعالى) طيبة النفس والمعشر ، انيقة المظهر وصاحبة قلب أبيض طيب مطهر…، ترضى بالقليل ويغمرها الكثير والكثير، تأكل ما وجدت ، ولا تسأل عما فقدت ، كانت حامدة دوماً وشاكرة لمن أهداها وأعطاها ، غافلة متغافلة عمن منع أو أعطى قليلاً وأكدى وبخل وأمسك…، بل وأجزلت السخاء والعطاء للجميع دون أي محاباة أو تمييز ، وضحت بالغالي والنفيس وما كانت تبتغي من الدنيا إلا رضى البارئ الجبار العزيز.
كانت (أمي) عفة اللسان والكلام، طاهرة ، ورعة، نقية ، عابدة ومتعبدة ، فأوجدت بينها وبين القلوب والأفئدة تآلفاً وتساوقاً وانسجاماً ومحبة ، حيث جعلت بينها وبين ربها سبباً ، فأحبها حباً صادقاً كل من لاقاها وكل من عرفها وخالطها …، كانت لا تحسد ولا تعيب أحداً ، قناعتها بأن الغنى غنى النفس وعزتها ، فقد كان فؤادها مطهر من الغل والحسد ، وحرصها الشديد على مداراة ومسايسة من حولها ، عف لسانها عن الزلل والخطأ والخلل ، رضاها بقدر الله عز وجل والتسليم لأمره حال من أن تغضب أو تسخط أو تحقد أو تجزع ، لا تذكر أحداً بسوء ، كانت تحترم الكبير والصغير ،وترحب وتبتهج بالزوار في ديوانها ذاك البيت العتيق،( بيت العائلة الكبير)…، أجمع على احترامها وحبها الأبناء والبنات ، والإخوان والأخوات ، والأحفاد والأسباط ، وزوجات الأبناء وأزواج البنات ،وسائر الأقارب والجيران والمعارف والأحباب ، كانت (أمي) هي شجرتنا الوارفة الظلال وخيمتنا التي تقينا لهيب حر الصيف وبرد الشتاء القارس ، نجتمع حولها (الشباب والبنات والأحفاد)…، في كل وقت وحين بلا حرج ولا موعد أو ميعاد ، وهي مع هذه الجلسات والسهرات تملؤها الفرحة والبهجة والسعادة والسرور، حيث التئام الشمل والبر وصلة الأرحام . أبناؤها وأحفادها هم الضياء لناظريها ، والأكف لساعديها ، هم فلذات كبدها وثمار كدها وتعبها وشقائها.
نعم لقد كانت (أمي) خيمتنا وشجرتنا، وستبقى أجمل وأحن خيمه وأثمر شجرة وأينعها ، ولا ظل بعد ظلها وظل والدي (رحمهما الله تعالى ) ، إلا ظل المولى عز وجل ، وستبقى أمي ما حييت أجمل نساء العالم وأحن النساء وأعطفهن وأرحمهن وأودعهن وأطيبهن ….، أمي هي الأرض بكل تفاصيلها وتضاريسها كانت تحملني عندما أمرض وحينما أغفو وأنام على صدرها الحنون …، أشجارها تغطيني…، وهي السماء حينما أفرح كانت تنتشلني من الأرض وتطير بي في حضنها لأرقص مع الكواكب والنجوم … أمي هي تلك السفينة التي أقلتني وحملتني طيلة عمري ولأكثر من خمس عقود إلى بر الأمن والأمان …، وهي لؤلؤة المرجان التي أرشدتني بنورها وحنكتها وحكمتها وأفقها الواسع إلى الطموحات والأحلام …، وهي الشمعة المنيرة المشعة التي كانت معي دوماً تشعل نفسها لتضيء طريقي في منارات الحياة والعالم والكون كله مهما ازدحمت به الأنام … أمي هي كل شواطئ المحيطات والبحار والأنهار وكانت ترسل حبالاً من السماء لأرسو آمناً بين أحضانها عندما أتعرض لعثرات الدهر وحسد الأشرار …(أمي) غفت للأبد … ولم تعد تستيقظ حيث كان العالم بصحوها يستيقظ كل يوم … وتتفتح تلك الأشجار التي غرستها وزرعتها … وتزهو وتزدان الورود في الحدائق والجنان … وتزقزق وتغرد عصافير الكون في الأزقة والشوارع والحارات القديمة والأودية والوديان ، نعم لقد غفت أمي ونامت في قبرها … فمات الصوت وماتت الدنيا بأسرها وأصبحت الحقول والبساتين المخضرة صحاري قاحلة… والحدائق والشوارع والتلال والهضاب مقابر ومآتم يلتفها الحزن والأحزان من كل صوب وجانب …وانطفأت الأنوار ونفذ الوقود من كل مدافئ العالم ولم أعد أشعر بالدفء من برد الشتاء والأمطار ..نعم لن تعود أمي ولن تعود ولن تجلس في ذاك الركن البعيد وفي صدر الديوان العتيق الذي يعج بالذكريات والأسفار.
أمي يا وجعي وألمي وجزعي وكمدي . وداعاً أيتها المريم والدواء والمرهم … وداعاً يا بستاني اليانع الأخضر … وداعاً يا عمري الأسعد والأبهج … وداعاً يا طوق نجاتي الأوحد…ويا هرمي الأعظم وياقمري المضيء الأبيض …يا سمائي الصافي الأزرق … وداعاً يا ملاكي وشمسي وبحري ونهري الأعذب… وداعاً يا أميرتي وغاليتي المتربعة على عرش فؤادي للأبد … وداعاً أيتها الأميرة النائمة في قبرك ولحدك للأبد… وداعاً أمي الحبيبة أنتٍ وليس غيركٍ للأزل وللأبد ….وداعاً أمي المريم الدواء والمرهم والبلسم.
لقد كانت خاتمة (أمي / رحمها الله تعالى) مليئة بالعبر والتفكر …، حيث استجاب المولى جل وعلا لدعواتها (اللهم حسن الخاتمة) ، فقد توفاها الله فجر يوم الجمعة الموافق (١١/٢٤/۲۰۲۳)وهو اليوم الأفضل والأحب للمولى عز وجل ، وهذا من أعظم ما أكرمها الله عز وجل به من التوفيق بإذنه لحسن الخاتمة ، فقد كانت (أمي) مسارعه في أعمال الطاعات ونوافل العبادات ، فلا تقبل تأجيلها ولا التسويف ، ولا الأعذار او الإعتذار ، وكانت إذاعة القرآن الكريم بالنسبة لأمي هي مجالس الذكر وحلقات العلم ، فقد كان لها ميعاد ثابت وكل يوم لسماع القرآن الكريم ، وكانت تواقة دوماً لسماع صوت (الشيخ عبد الرحمن السديس ، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد).
يا أمي الرؤوم والحنون … كأن الورود والأزهار بكل صنوفها وأنواعها وألوانها نهلت منك تفتحها وجمالها، وفاحت عبق شذاها من أخلاقك الندية ، فلقد تعلمت من لطفك ما يكون لي قوتاً وزاداً في مسيرة حياتي فمنك تزودت بالحماية والحصانة في الدنيا من آلامها وأوجاعها ، ومنك تزودت من بالدنيا بآمالها وأحلامها ، لقد كنت (يا أمي) ترفعين أكفك بالليل والنهار إلى السماء تطلبين متوسلة من الواحد القهار الصبر والمدد والثبات والسؤدد ، وأنا أنام وأغفو قرير العين مؤمن بإستجابة رب غفور رحيم لدعوات أم رؤوم وحنون . ….، کنت تنصبین أشرعة الدعاء فيسيرها الخالق عز وجل بريح طيبة … فلم أشعر طيلة حياتي كلها إلا بكل توفيق وتسهيل ويسر …، ( وماكنت أنجو من الأزمات والأوجاع والآهات والحسرات والمتاهات والصعاب والتحديات إلا بدعواتك لي .
(أمي) مهما وصفتك سأبقى عاجزاً مقصراً لأنك فوق الوصف، وتعجز الكلمات بكل لغات العالم أجمع عن صياغة وكتابة الخواطر والقصص والقصائد والروايات التي يمكن أن اخطها وارسمها بقلمي عنك…، عذراً يا غاليتي فلن أقدر على الكمال في الوصف والتوصيف والتجسيد والتشخيص .
أمي وغاليتي وملهمتي ومعلمتي … ليس هناك أعظم من فقدك إلا زلزلة الساعة، وليس هناك أنكى من رؤيتك وأنتِ مسجاة بلا حركة وحراك …، لأول مرة (يا غاليتي) في حياتي أنظر إليكِ ولا تنظري إلي، ولا تحاولي النهوض لتضميني إلى صدرك الحنون الروؤم ، نظرت إلى جثمانك الطاهر وهو مسجى في البيت العتيق وممدود امام المودعين والمودعات من أشقائي وشقيقاتي والأقرباء …، وأنا في ذهول واستعدت شريط الذكريات ومسيرة الرحلة مع الأم الغالية والحنونة فانهمرت الدموع وسالت وغطت الوجنتين وفاضت ، وتحشرجت الآهات والغصات في الصدور وصالت وجالت …، وأسرعت نبضات ودقات القلب وجعاً والما وفزعاً وجزعاً على فقدانك … كنت أردد متسائلاً بيني وبين نفسي واتمتم هل فعلاً إن وفاة (أمي) صارت وباتت وأصبحت حقيقة وأنه ليس لي من مفر بعد الآن إلا أن أقول إن أمي كانت وكانت وكانت ؟؟.
فيا أمي وأقولها خاتماً رثائي لك : وداعاً ايتها الروح الزاهدة الطاهرة المطهرة النقية العابدة المتعبدة الطائعة لله عز وجل ، فلن أنسى طعم خبزك ولن أنعم من اليوم بطعم قهوتك العربية الأصيلة أو بطيب دعواتك ودفء احضانك فلقد كنت لي ظلاً ودرعاً وسلاحاً واقياً … وكنت لي سنداً ، وداعاً أمي أيها العش الدافئ الذي احتضنني واستوعبني صغيراً وكبيراً ، ولازمني شباباً … كنت لي نعم الدواء والشفاء …، (وداعاً يا مصدر الوفاء والإلهام والحب والإخلاص الذي لم تغيره او تزيفه معايير وقوانين الدنيا بأسرها ولا منظومة وتعليمات البشر …، واسأل الله المولى عز وجل أن يجعلك ممن ترحب بهم الأرض ، وتستبشر بهم السماء ، وأن يجعل آرائك الجنة وسادك بعد ان وسدناك الثرى، وان يسقيك من حوض نبيه عليه افضل الصلاة والسلام شربات ماء لا تظمئين بعدها أبداً وأن يمتعك متاعاً سرمديا في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وان يتغمدك بعفوه وغفرانه ومغفرته ، وأن يجعل آخرتك أفضل من دنياك ، وأن يبرد مضجعك ، وأن يرحمك رحمة الصالحين الأبرار ، اللهم ان أمي في قبضتك وبين يديك ، اللهم ارحمها واغفر لها ، اللهم نور قبرها وعطر مرقدها ، اللهم أرحم أبي وأمي وآباء المسلمين وأمهاتهم رحمه واسعه ، واجمعنا وجميع المسلمين جوار النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى من الجنة … اللهم آمين آمين آمين … ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.