وطنا اليوم:لم يستطع صديقي خالد أن يبقى وسط القاهرة أكثر من ساعتين أو ثلاث منذ صدور قرار مجلس الوزراء المصري بمنع “الشيشة”، في 16 مارس/آذار 2020، للحد من انتشار كورونا، إذ كان خالد يقضي كآلافٍ مثله، نصف يومه وسط العاصمة في المقاهي.
ومنذ قرار منع الشيشة، رتَّب خالد نفسه على قضاء مصالحه ومواعيد عمله بسرعة، حتى يعود إلى منزله لتدخين الشيشة بحرية في بلكونة شقته، متجاهلاً التحذيرات بأن الشيشة تنقل العدوى وتضر الجهاز التنفسي بشكل عام.
لكن خالد ومنذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عاد لعادته القديمة بالبقاء مدة أطول وسط القاهرة، حيث اكتشف أن بعض المقاهي تقدم الشيشة سراً رغم قرار الحكومة المصرية بحظرها.
ولأني مدخن مثله توجهت معه إلى أحد المقاهي التي تقدم الشيشة في ذروة الموجة الثانية من فيروس كورونا، والأسرع انتشاراً، لأشاهده وأدخن معه الشيشة في المقهى الكائن بجوار دار أخبار اليوم من الجهة اليسرى.
كانت مساحة المقهى كبيرة، نحو 50 متراً مربعاً، تتكون من طابقين، الأرضي والأول، وتصعد إليه بسُّلم حديدي، وفي ركن من هذا الدور جلست وصديقي خالد ندخن الشيشة وسط مجموعة من رواد المقهى، ومعظمهم صحفيون أيضاً.
أثار الأمر اندهاشي، وتساءلت في نفسي: من أين تأتي شجاعة صاحب المقهى لتقديم الشيشة، رغم عواقب مخالفة قرار منعها والتي تصل إلى حد الإغلاق التام للمقهى .
بعد أسبوع، توجهت مع صديقي خالد للمقهى نفسه لندخن الشيشة، ولكن صاحب المقهى اعتذر لزبونه المقرب “خالد “، قائلاً بعامية المصريين: “معلش يا أستاذ خالد، جالنا تليفون إن في حملة بلدية نازلة”.
ويعني بذلك أن صاحب المقهى تلقَّى مكالمة من مسؤول في قسم شرطة الأزبكية بأن هناك حملة من شرطة “المرافق” -يطلقون عليها في مصر “البلدية”- ستنزل على المقاهي، فتم إخفاء الشيشة مؤقتاً إلى حين مرور الحملة.
وهكذا عرفت سر هذه الشجاعة من صاحب المقهى في تقديم الشيشة، رغم أن غيره من أصحاب المقاهي المجاورة له لا يقدمونها، وهنا ثارت غريزة الفضول لديَّ أكثر، فلماذا لا يقدم صاحب المقهى المجاور الشيشة، مثل جاره الآخر؟
من خلال جولة في المقاهي تأكدت أن من يقدم الشيشة بشجاعة ولا يخشى قرار الإغلاق يدفع إتاوة شهرية تتراوح بين 10 آلاف جنيه و20 ألفاً، لأحد المسؤولين في قسم الشرطة، أو أن صاحب المقهى ذو منصب رفيع المستوى، أو ربما كان -أو ما زال- يعمل لدى إحدى الجهات الأمنية، وغالباً يكون أصحاب مثل هذه المقاهي قيادات سابقة في الجيش المصري.
هذا ما أكده لي “ع. أ”، عامل في أحد المقاهي بضاحية القاهرة الجديدة، قائلاً إن “الكثير من المقاهي تقدم الشيشة الآن وبعلم من الشرطة، والسر في هذه الإتاوة التي يتم دفعها شهرياً، وإذا تخلف صاحب المقهى عن الدفع تأتي إليه حملة من الشرطة لإغلاق المقهى، أو أن صاحب المقهى نفسه يعمل في جهة أمنية ما”.
إتاوات للشرطة
تأكَّد من تسجيل صوتي لعامل في أحد مقاهي وسط القاهرة، إذ طلب رئيس المباحث أن يدفع له 50 ألف جنيه؛ للسماح له بتقديم الشيشة، ولكن صاحب المقهى رفض، فتفاوض معه المسؤول على 20 ألف جنيه، فرفض أيضاً، إذ رأى صاحب المقهى أن عائد المقهى في ظل هذه الظروف لن يغطي له الإتاوة الشهرية.
لكن صاحب مقهى آخر قال لي، إن “التسعيرة الرسمية لإتاوة الجيش هي 10 آلاف جنيه، وهناك بعض المقاهي تقوم برشوة فرد في مباحث القسم بمبلغ أقل، مقابل إبلاغ صاحب المقهى عبر الهاتف بما إذا كانت هناك حملة على المقاهي أم لا؟”.
انتشرت الشيشة في مقاهي مصر رغم قرار حظرها بسبب تفشي وباء كورونا، خاصة في أطراف القاهرة، وبعض المحافظات، وبعلم الشرطة أيضاً، وهو ما تؤكده محادثة هاتفية مسجلة مع مصدر أمني، والذي رد على سؤال عن سر انتشار الشيشة في ذروة كورونا، فردً متعجباً: “إنه الفساد”.
وعود مرشحي مجلس النواب لأصحاب المقاهي
أصحاب المقاهي، وفق ما أكده عم محمد، صاحب مقهى في شارع معروف وسط القاهرة طالبوا مرشحي مجلس النواب في الانتخابات الأخيرة بالالتفاف إليهم، خصوصاً أن مقاهي الشيشة تضررت من أزمة كورونا، فكثير من العاملين بها ليست لديهم حرفة يقتاتون منها.
وأضاف متحدث ، أن “مرشحي أعضاء مجلس النواب وعدونا بأن الشيشة ستعود للمقاهي عقب انتخابات مجلس النواب، ولكن لم يحدث شيء حتى الآن، ومن يقدم الشيشة في مقهاه الآن، يدفع رشوة للشرطة”.
تنتشر الشيشة الآن بأنحاء القاهرة الكبرى والجيزة، خاصة في الأحياء الشعبية، مثل الكيت كات، وبولاق، والدقي، ففي شارع التحرير الرئيسي الممتد إلى ميدان الدقي، لم يكترث مالك أحد المقاهي بانتشار فيروس كورونا وارتفاع معدل الإصابات، إذ استمر في تقديم الشيشة نفسها من زبون لآخر ثم إلى عشرات الزبائن في اليوم نفسه، الأمر الذي يُهدد بتسارع انتشار الفيروس.
مقاهي 5 نجوم
أما في مدينة نصر، وبجوار حي السفارات، حيث يجلس رواد “الكافيه” الاسم الذي يطلق على المقهى بالمناطق الراقية، وهو من فئة الـ5 نجوم، فمخصص لطبقة اجتماعية أعلى من المتوسطة.
يجلس مدخنو الشيشة في الدور الثاني لـ”كافيه” على أرائك، وليس مجرد مقاعد عادية، ويبلغ سعر حجر الشيشة العادية (المعسل) وكوب من الشاي 30 جنيهاً، وإذا طلب الزبون مياهاً معدنيةً فإن التكلفة تُصبح 40 جنيهاً.
عند زيارة لأحد المقاهي الراقية في مدينة نصر، اكتشف أن الحجز مسبق في ذلك المقهى الخاص، سواء عبر الهاتف، أو عبر الصفحة الرسمية للمقهى في فيسبوك.
وإذا كانت بعض المقاهي تعمل مستترة بعض الشيء في تقديم الشيشة، فالبعض الآخر لا يخفي نفسه، ففي شارع الخمسين بمنطقة المعادي جلست على أحد المقاهي الـ5 نجوم أيضاً، وقد خصص صاحب المقهى جزءاً من مساحة المقهى لمدخني الشيشة، ومكاناً لغير المدخنين بساتر بلاستيكي مقوَّى، لكن لا توجد أي إجراءات احترازية بين المدخنين وغيرهم، فالدخان يعبئ المكان، والجميع يجلسون بجوار بعضهم البعض، دون تباعد، وعامل المقهى لا يرتدي الكمامة.
سأل صاحب المقهى: “كيف تتجنبون العدوى من كورونا؟”، فقال إنهم يغسلون الشيشة من الداخل بالماء الساخن والصابون السائل عقب تناولها من كل زبون، إضافة إلى استعمال خرطوم طبي لسحب الدخان من التبغ، وتقديم المشروبات في كوب من الكرتون المقوى.
وفي المقابل هناك بعض المقاهي لا تحرص على الوقاية من فيروس كورونا، فيتم تقديم الشاي في كوب زجاجي، وخرطوم الشيشة من الجلد العادي وليس طبياً.
أحد عمال مقاهي الشيشة قال في رده على سؤال حول تضحيته بسلامته في العمل بالمقاهي، قال إن “أكل العيش صعب، ماذا نفعل نحن العمال المتضررين من وقف هذا الحال؟ هل نسرق؟ حتى السرقة أصبح لا جدوى منها، بعد إفلاس معظم المصريين”.
أما الزبائن، وهم أبطال القصة، فتحدث أحدهم إلى قائلاً إن “الشيشة حاجة بننفخ فيها الضغوط التي نعاني منها، ولا نستطيع الاستغناء عنها، فبعد منعها من المقاهي بدأت التدخين في المنزل، لكني وجدت الأمر صعباً، من كل النواحي، الصحية خاصة على الأولاد، أما في المقهى فأدخن بحريتي وأجلس مع الأصدقاء والجيران، نفرغ همومنا في دخان الشيشة”.
أما أحمد، الشاب الثلاثيني، فردَّ على سؤال، عن كونه لا يخشى كورونا وسط جلوسه في مقهى لتدخين الشيشة، بقوله: “لم أفكر في كورونا وأنا أدخن الشيشة.. بصراحة مش في دماغي”.
أما نبيل، أحد زبائن مقهى الشيشة، فقال في حديثه : “في بداية الجائحة اشتريت شيشة ووضعتها في المنزل، لكن لا أستطيع التدخين بحرية، ولا أستطيع الامتناع عن تدخين الشيشة في المقهى ووسط الناس”.
كانت أكثر المناطق انتشاراً للشيشة رغم قرار حظرها بسبب ” كورونا”، منطقة مدينة نصر، وبالتحديد شارع عباس العقاد، وبجوار فندق سونستا، وفي الحي العاشر، حيث تسمح معظم المقاهي المحيطة بتدخين الشيشة داخل المقهى، لكن تشترط على الزبون أن يجلس في أماكن مختبئة داخل المقهى يسمى “ركن الشيشة”، وتفصله عن باقي المقهى ستارة أو باب خشبي منفصل، ومخصص له مجموعة عمال.
وبعض المقاهي الأخرى بالمنطقة نفسها والتي لا يتوافر لديها مكان واسع، تقوم بتأجير غرفة ضيقة بالعقار نفسه الذي يوجد به المقهى، غالباً ما تكون فوق السطح أو داخل جراج السيارات، وفي الغالب تلك الغرف يوجد بها أكثر من 10 أفراد، ولا يسمح لغير زبون المقهى المعروف مسبقاً بالصعود، ويتراوح سعر حجر الشيشة في تلك المقاهي بين 5 جنيهات و10 جنيهات؛ نظراً إلى تكلفة تأمين شرب الشيشة والمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها صاحب المقهى.
بين شيشة المنزل وشيشة السيارة
يبدو أن المصريين في هذه اللحظات الحرجة التي يعيشونها ما بين غلاء الأسعار من جهة، وضغوط الحياة عليهم من جهة أخرى، يلجأون إلى الشيشة أو التدخين بصفة عامة لتفريغ مخزونهم من القلق النفسي أو للهروب من الواقع الذي يعيشونه، فنجد أنهم يتحايلون على مثل هذا القرار، فمنهم من هرول إلى شراء شيشة في المنزل، دون اكتراث بالأسرة التي ستتضرر، ومنهم من اشترى شيشة يحملها معه في سيارته.
هشام، شاب سأله عن عدم تخوفه من كورونا وهو يدخن الشيشة، فسخر قائلاً: “يعني هي الشيشة اللي حتنقل العدوى؟! فماذا عن المواصلات المزدحمة؟ والأسواق المكدسة؟. كل شبر في مصر أصبح ناقلاً للعدوى، طوابير الخبز، والهايبر ماركت، كلها أماكن لنقل العدوى، وليس الشيشة فقط”.
من جهته قال صاحب مقهى في شارع معروف : “نحن هنا في شارع يعج بالمخبرين، ولا نستطيع تقديم الشيشة، لأننا لا نستطيع دفع المعلوم (أي الإتاوة)، وحتى لو دفعناها فسنجد من يبلّغ عنا الجهات المسؤولة، وسنضطر إلى دفع الرشى لأكثر من جهة، لذلك لا نستطيع تشغيل الشيشة”.
ويسخر صاحب المقهى من منع الشيشة وفي الوقت نفسه فتح المقاهي، قائلاً: “إذا كانت الحكومة قد سمحت بعودة المقاهي، فهل ستضع رقيباً على كل مقهى في مصر يطبق الإجراءات الاحترازية؟ بالطبع لا، إضافة إلى أن من يجلس على المقهى يدخن السجائر، أليست السجائر ونفخ دخانها في الهواء ينقل العدوى؟”.
اقتصاد الشيشة والكافيهات
لا شك في أن انتشار فيروس كورونا أضر كثيراً بقطاعات النشاط الاقتصادي في مصر، وكان على رأس هذه القطاعات “المطاعم والمقاهي”.
فبحسب دراسة للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، فبعد إغلاق المقاهي والمطاعم بشكل كامل في الموجة الأولى من كورونا، منذ منتصف مارس/آذار وحتى الأسبوع الأخير من يونيو/يونيو، تراجعت ايراداتها بنسبة 80%، ومطاعم الدليفري بنسبة 65%.
وأشارت دراسة المركز، حول تأثير أزمة كوفيد 19 على قطاع المطاعم والمقاهي، إلى أنها من القطاعات كثيفة العمالة، إذ يشتغل بها نحو 700 ألف عامل وفق الأرقام الرسمية، بما يمثل 5% من إجمالا عدد العاملين بالمنشآت، في حين يقدَّر عدد العاملين بها، وفق تقديرات غير رسمية، بنحو 2 مليون عامل، أي ثلاثة أضعاف الرقم الرسمي المعلن.
وأوضحت الدراسة أن بداية التأثير العنيف للأزمة الحالية على القطاع حدثت من منتصف مارس/آذار مع بداية الإغلاق والإجراءات الاحترازية التي اتخذتها الحكومة؛ إذ شهدت المطاعم ذات الخدمات المتكاملة تراجعاً في إيراداتها بنحو 80% أو أكثر، كذلك تراجعت أعداد العاملين بنسب أكبر من مطاعم الوجبات السريعة، تصل إلى 60%.
وطالبت الدراسة بمجموعة من التدخلات المطلوبة لتخفيف آثار الأزمة على القطاع، منها تقديم حزم تمويلية مميزة تتناسب مع طبيعة نشاط المطاعم والمقاهي تمكنها من زيادة مبيعاتها، وكذلك إعفاؤها من الالتزامات السيادية من ضرائب وغيرها ومن دون فرض غرامات للتأخير، مع تقديم الدعم بأنواعه كافة لأصحاب المطاعم والمقاهي حتى لو كانت غير رسمية، كتقديم دعم مالي لمرة واحدة على سبيل المثال، مما يشجع هذه المنشآت على أن تتحول للقطاع الرسمى.
ووفقاً للقانون، يتم فرض عقوبة بالحبس وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد على 20 ألف جنيه، في حالة تقديم الشيشة دون تصريح، أو كل من حصل على مقابل خدمة على الفاتورة الصادرة عن المحل العام، أو وضع حد أدنى للأسعار نظير الوجود بالمحل العام أو تقديم الخدمات.عربي بوست