كتبه المهندس خالد بدوان السماعنة
كنت في مقال سابق قد تحدثت عن الإدارة الاستراتيجية، وأشرت فيه إلى أن الزمان تغير، وأصبح مفروضا على المنظمات التي تسعى إلى التميز أن تولي اهتمامها بما يدور حولها، وبأمور لم تكن تكترث لها في الماضي ، إذ كان منها ماهو مجرد خيار استراتيجي لتصبح فجأة ضرورة استراتيجية. فلم يعد الميزان محصورا في زيادة مقدار الربح المادي الحالي أو القريب وخفض النفقات! إذ برزت مستجدات بات على المنظمة أن توليها جل اهتمامها.
كنا قد أشرنا إلى مصطلح (الاستدامة) وذكرنا أن استمرار المنظمة مرتبط بواقعية أهدافها وبالتالي واقعية استراتيجيتها. وأنه وبالإضافة إلى حرصهم على الربح وتوفير النفقات برز أمام المنظمات تحديات من نوع جديد كالمسؤولية الإجتماعية، والمسؤولية البيئية للمنظمة تسنزف مزيدا من النفقات، لتشكل هذه الثلاثية (كوكتيلا) –إن صح التعبير- للحكم باستدامة المنظمة من عدمها.
حتى المنظمات التجارية لم يعد بوسعها في هذا العصر أن تعمل ضمن البرنامج التقليدي الذي كان معتمدا في السابق لتصبح ناجحة، أو لتظل ناجحة ! بل أصبح لزاما عليها أن تدخل عالم المخاطرة وتتحمل المخاطر الاستراتيجية.
لا زلت أذكر كلام الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك (GE) بعد أن أطلقت الشركة مبادرتها الاستراتيجية عام 2005 والتي كان صميمها معالجة التحديات، وكان من أكبر تحديات الشركة حينها استخدام مصادر طاقة نظيفة وأكثر كفاءة، وتخفيض حجم الانبعاثات من سياراتها، مع الحفاظ على أرباحها السنوية لإرضاء مساهميها.
قد لا يفهم البعض موطن التحدي في هذا القرار الاستراتيجي للشركة، ولكن قد نعي ذلك متى علمنا أن الشركة بسبب ذلك قامت بمضاعفة الإنفاق على البحث والتطوير من 700 مليون دولار في عام 2004 إلى 1.5 مليار دولار بحلول عام 2010 والتي تشمل منتجاتها توليد الطاقة، والقاطرات، ومعالجة المياه، وغيرها. حتى أن الإدارة العليا للشركة أتخذت قرارها بأن الحكم على مديري الوحدات العالمية التابعة لها مستقبلا سيكون من خلال مدى تحقيقهم للأهداف البيئية للشركة.
وهنا نفهم الفرق بين القرار الاستراتيجي وغيره من القرارات الإدارية! ففي الأول نحن نؤثر على اتجاه المنظمة العام، بينما لو نظرنا إلى القرار التشغيلي فستجده خاصا بالعمليات اليومية، في حين أن القرار التكتيكي معني بشكل مباشر بطريقة تنفيذ المطلوب بنحو آمن وناجح.
فمثلا –ولنفهم شيئا من الفرق – اتخذت شركة سامسونج قرارها التاريخي ( الاستراتيجي) بالانتقال من استثمارها في الشعير و الأرز إلى الاستثمار في الإلكترونيات، في حين أن قراراتها (التكتيكية) فيما بعد كانت معنية بتحديد طرق وآليات هذا التحول.
وعلى النقيض تماما مما فعلته شركة جنرال إلكتريك باتخاذها قرارا استراتيجيا كان سببا في نهضتها، كان قرار شركة نوكيا الاستراتيجي بعدم دخول سوق الهواتف الذكية إمعانا منها في تقدير الذات والاعتماد على شهرة هواتفها، فكانت النتيجة ضياع الميزة التنافسية للشركة وتفوق العديد من الشركات في السوق عليها. ولنشاهد بأم أعيننا بكاء فريق إدارة الشركة حين سماعهم لكلمة الرئيس التنفيذي لنوكيا خلال المؤتمر الصحفي الذي تم الاعلان فيه عن شراء مايكروسوفت لشركة نوكيا.
القرارات الاستراتيجية الخاطئة قد تودي بمنظمات كبرى إلى الهاوية.
فشركة نوكيا فعليا لم تقم بخطأ تقني في أجهزتها، لكنها لم تنتبه إلى أن العالم يتغير بشكل سريع جدا، فلم يواكبوا هذا التغير، ولا هم أدركوا أن عليهم أن يتغيروا، ففقدوا ليس فقط فرصتهم في الكسب الوفير، بل في بقائهم ووجودهم .. والرسالة: إما أن تتغير وإما أن تستبعد.
عودة مرة أخرى إلى شركة جنرال إلكتريك وقرارها الاستراتيجي بأن تجعل المسؤولية الاجتماعية والبيئية محوره، والغريب في الأمر أنها هي نفس الشركة التي سبق وأدينت من قبل أنصار البيئة بتسببهم بتلوث نهر هدسون وهوستونيك في ثمانينيات القرن الماضي !. وهي نفس الشركة التي اتهمت بالأنانية المجحفة في حق البيئة وعدم اكتراثها بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية على حد سواء في سبيل اهتمامها بالربحية!. لكن متى عرف السبب بطل العجب.
كان السبب في هذا التحول التاريخي وقبل إطلاق استراتيجيتها البيئية الجديدة بسنة ونصف أن دعت شركة جي إي مديري الشركات في مختلف الصناعات للمشاركة في جلسات حلم لمدة يومين، وطلب منهم تخيل العالم بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، وتحديد طبيعة المنتجات التي سيحتاجونها كعملاء لشركة جي إي.
كانت نهاية جلسات الحلم تلك هو الإجماع على أن تكاليف الوقود آخذة في الارتفاع، وأن اللوائح والأنظمة التي تحافظ على البيئة ستزداد قيودها، ورغبة المستهلكين في تقنيات أنظف، وخاصة في صناعة الطاقة. فكان ماذا؟
قامت شركة جنرال إلكتريك باتخاذ قرارها الاستراتيجي الحاسم بالانتقال إلى مربع آخر.
الخلاصة: لنا أن ندرك من كل ماسبق أهمية الإدارة الاستراتيجية، وضرورة تحديد المحفزات الشائعة في البيئة الخارجية للمنظمة لأنها ستدفع باتجاه التغيير الاستراتيجي، وأن القرار الاستراتيجي الناجح لا يأتي إلا بعد مسح شامل للواقع واستشراف للمستقبل.
وللكلام بقية .. دمتم في عافية