وطنا اليوم:لم تتردّد الحكومة الألمانية في الإشادة بقانونها الجديد لاستقطاب العمالة الماهرة من خارج الاتحاد الأوروبي. فبينما وصف المستشار أولاف شولتز القانون بأنه “الأفضل في العالم”، وصفته وزيرة الداخلية نانسي فيزر بأنه “تاريخي” ويقتفي أثر قوانين أثبتت جدارتها في دول أخرى، أبرزها كندا التي تمكنت من جذب أفضل العقول من حول العالم.
وعندما قدمت أحزاب الائتلاف الحكومي (الاشتراكيون الديمقراطيون والخضر والليبراليون) مشروع القرار أمام البرلمان (بوندستاغ) ونجحت في تمريره، لم تجرؤ حتى أحزاب المعارضة المحافظة على الطعن في فحواه، واكتفت بانتقاد بعض تفاصيله شعبويا، كالقول إنه سيشجع “هجرة الفقراء” ويترك الاقتصاد الأكبر في أوروبا في محنته.
ولكن الطرفين أجمعا على أن ألمانيا تأخرت في وضع قوانين تحل مشكلة نقص العمالة الماهرة التي تعد وفقا لأكبر 7 معاهد اقتصادية في ألمانيا أبرز عقبة تقف في وجه النمو الاقتصادي وإصرار ألمانيا على المحافظة على رخاء اكتسبته بجدارة بعد الحرب العالمية الثانية.
وبينما تتفاوت أرقام العمال والموظفين المهرة الذين يحتاج إليهم الاقتصاد الألماني بين معهد اقتصادي وآخر، تؤكد غرفة التجارة والصناعة الوطنية أن القطاعات الاقتصادية المختلفة ستحتاج حتى عام 2035 إلى 7 ملايين موظف جديد.
مكتب العمل الاتحادي ذهب إلى أبعد من ذلك، وأكد في آخر تقرير له ارتفاع عدد المهن التي تعاني نقص العمالة الماهرة من 148 مهنة إلى 200 مهنة، وأن نسبة فرص العمل التي أخفقت الشركات في ملئها بسبب نقص العمالة الماهرة بلغت 50%.
وخص المكتب مهن الرعاية الصحية والطب والبناء والخدمات والزراعة والصيدلة وتجارة التجزئة والمعلوماتية، وغيرها من المهن الكثيرة التي تبحث الشركات العاملة فيها من دون جدوى عن عمال وموظفين مؤهلين.
ما الجديد؟
هذه الأرقام والتوقعات حفزت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل على انتزاع قانون قبل رحيلها يسهل عبور العمالة الأجنبية إلى أسواق العمل. ولكن القانون لم يكن كفيلا بسد النقص ولا بجعل ألمانيا جذابة لمئات آلاف الموظفين المتخصصين الذين يحتاج إليهم الاقتصاد، ولا بتسهيل نظام منح التأشيرات المعقد، ولا بإقناع السلطات بالاعتراف بالشهادات الأجنبية ولا بإزالة عقبات أخرى.
فما الذي يجعل الحكومة الحالية متفائلة بقدرة التعديلات الجديدة على حل المشكلة المستعصية؟
“لأن القانون الجديد يعني في كلمة واحدة انفتاح ألمانيا على الآخر، ويعني كذلك توديع سياسة الهجرة المقيَّدة”، وفق تعبير مصباح خان، السياسية من حزب “الخضر” التي شاركت في إعداد هذا القانون.
وتوضح خان، في حديث للجزيرة نت، أن ألمانيا “كانت في الماضي تضع الحواجز والقيود أمام المهاجرين، والآن تودع هذه السياسة”، مضيفة أن القدوم إلى ألمانيا والبقاء فيها وبحث الشركات عن الموظفين والالتحاق بأسواق العمل ورقْمنة جميع الإجراءات اللازمة “سيكون أكثر سهولة بهذا القانون”.
وتعد مشكلة الرقمنة التي تفاقمها “نقمة” النظام الفدرالي وصعوبة اللغة والبيروقراطية من أكبر المشكلات التي تعترض التحاق الموظفين الجدد بأسواق العمل وتبطئ البت في المعاملات، وفق ما تقوله الطبيبة المغربية جهان السعيدي التي تعمل في المستشفى الحكومي بمدينة يينا.
فالطبيبة التي وصلت عام 2017 إلى ألمانيا تستغرب، في حديث للجزيرة نت، من اختلاف قوانين العمل والاعتراف بالشهادات والخبرات المهنية من ولاية إلى أخرى ومن صعوبة اللغة الألمانية، قائلة إنها تحتاج أحيانا إلى عطلة نهاية أسبوع كاملة من أجل الإجابة على بضعة رسائل مكتوبة بلغة معقدة.
نظام نقاط وبطاقة فرص
ووفق نص القانون الجديد، فإن ألمانيا تهدف إلى تسهيل عبور العمالة الأجنبية الماهرة إلى أسواق العمل وجعل هذه الأسواق أكثر جذبا لمئات آلاف الموظفين والعمال المؤهلين التي يحتاج إليها الاقتصاد كل عام، ولكنها تسعى أيضا إلى استنفاد جميع القدرات المهنية الموجودة في ألمانيا من خلال تسهيل التحاق المهاجرين بالقطاعات الاقتصادية المختلفة.
وسيعتمد القانون الجديد على “نظام النقاط غير البيروقراطي” الذي سيتم من خلاله تقييم أهلية المتقدم بناء على 5 معايير، هي: العمر، والتأهيل العلمي، وإتقان الألمانية، والخبرات المهنية، والعلاقة مع ألمانيا، وعلى “بطاقة الفرص” التي تمنح الأجنبي الذي حصل عليها -وفقا للمعايير الخمسة المذكورة- الحق في البحث عن فرصة عمل لمدة عام كامل.
وتشرح خان نظام النقاط بالقول “لنفرض أن طبيبا أو ممرضة أو مهندس كمبيوتر في المغرب أو في مصر أو في دولة عربية أخرى يريد الاستفادة من هذا القانون الجديد، فعليه أن يسأل نفسه: ماذا تنتظر مني ألمانيا أو ماذا أستطيع أن أقدم؟ هل لدي شهادة؟ هل أملك القدرة على الأخذ والعطاء بالألمانية؟ وهل أستطيع في المحصلة جمع 6 نقاط من بين 10 نقاط، لكي أحصل على تأشيرة العمل اللازمة؟”.
وتوضح أن القانون يحتوي على بند لم يكن موجودا في السابق، وهو حصول الشخص المعني على تأشيرة “شينغن” تمنحه حق القدوم إلى ألمانيا كسائح لمدة 90 يوما، وفي هذه الفترة، يستطيع البحث عن عمل سواء من خلال معارف أو من دونهم، وفور الحصول على فرصة عمل يستطيع تغيير تأشيرته إلى تأشيرة عمل.
حل إشكالية نظام التأشيرات المعقد
كما سيسهّل القانون منح التأشيرات في القنصليات الألمانية في الخارج من دون عقبات بيروقراطية، والاعتراف بالشهادات الأجنبية وحتى عدم اشتراط الاعتراف ببعض الشهادات من أجل العمل والانتقال من مهنة إلى أخرى بصرف النظر عن المؤهلات المهنية ومنح الشركات الحق في تحديد معايير الموظفين الذين تحتاج إليهم، وقبل كل شيء تسريع اتخاذ القرارات من خلال وضع بنك معلومات رقمي للراغبين وللشركات وللسلطات الحكومية في آن واحد.
وحول إشكالية منح التأشيرات في القنصليات الألمانية في الخارج وانتظار المعنيين فترة طويلة من أجل الحصول على التأشيرة اللازمة، تعترف خان بتأخر بلادها في رقمنة نظام منح التأشيرات. ولكنها تؤكد أن العام المقبل سيشهد خطوات كبيرة على طريق تسريع إجراءات منح التأشيرات وتعزيز قدرات القنصليات الألمانية في الخارج من أجل أن تكون قادرة على استيعاب طلبات أكثر.
إجراءات لم الشمل
وبشأن الاستفادة من اللاجئين الذين وصلوا في الأعوام الماضية إلى ألمانيا، ينص القانون الجديد -في إطار ما يعرف بمعيار “تغيير الاتجاه”- على السماح لكل لاجئ وصل الأراضي الألمانية قبل 29 مارس/آذار الماضي بالخروج من صفة اللاجئ والحصول على إقامة عمل بشرط إيجاد فرصة عمل، ما يعني السماح له بلم شمل عائلته.
وانطلاقا من أهمية نجاح سياسة الاندماج، تشير خان إلى أن خفض الحواجز التي تمنع التحاق العائلة بموظف حصل على تأشيرة عمل “يعد نقطة مركزية” في القانون الجديد، مؤكدة أنه “سيتم السماح للموظف باصطحاب عائلته وأطفاله معه، ما يفرض على ألمانيا الاعتراف بحاجتها إلى المهاجرين والإقرار بالامتنان لهم، وليس العكس؛ أي مطالبتهم بأن يكونوا ممتنين لمنحهم فرصة عمل”.
هل تعلم اللغة الألمانية ضروري؟
حول ضرورة تعلم اللغة الألمانية، تقول خان إن القانون الجديد أزال بعض العقبات التي تتعلق بشروط تعلم اللغة الألمانية، ويأخذ بعين الاعتبار هل يحتاج الموظف إلى اللغة من أجل ممارسة عمله أم لا، مضيفة أن الطبيب مثلا “عليه أن يتقن اللغة لأنه مطالب كل يوم بمخاطبة المرضى، ولكن هناك مهن لا تتطلب إتقان اللغة، مثل قطاع المعلوماتية التي تعد اللغة الإنجليزية لغة العمل فيه”.
ومن أهم القضايا التي تردع العمالة الأجنبية الماهرة عن التفكير في القدوم إلى ألمانيا هي “ثقافة الترحيب” التي لا يتقنها الألمان. فوفقا للطبيبة المغربية جهان السعيدي، فإن المجتمع الألماني “لا يتقبل الغريب”، الأمر الذي يتطلب من القادم الجديد “فرض نفسه فعليا” على هذا المجتمع و”مقاومة” هذا الرفض كل يوم.
وترى السعيدي أن تجربتها التي تمتد لـ6 أعوام تقريبا تشير إلى أن التأقلم في مجتمع في وسط أوروبا “صعب”، وتنصح أي شخص ينوي القدوم إلى ألمانيا بـ”التفكير أكثر من مرة” في ما إذا كانت الحياة في هذا البلد تناسبه، مؤكدة في الوقت ذاته أنها “ليست نادمة قط” على اتخاذها قرار المجيء إلى ألمانيا.
وعن معدلات الأجور، تقول السعيدي إن الأجور “محترمة”، ولكن الضرائب مرتفعة، ما يعني أن “فلوس ألمانيا تبقى في ألمانيا”.
وبخصوص معضلة “ثقافة الترحيب”، تقول السياسية من حزب “الخضر” إن أحد أهداف السياسة يبقى محاولة التأثير على المجتمع، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن القوانين لا تستطيع تقديم إجابات عن جميع الأسئلة التي يعرضها هذا المجتمع، ولكنها تؤكد أن القانون الجديد يريد إيصال رسالة إلى القادم الجديد مفادها “لا نريد منك أن تأتي فقط، بل نريد أيضا أن تبقى وتشعر أنك في بلدك”